فاصلة

مراجعات

«لا أزال هنا»… سينما تقاوم النسيان

Reading Time: 3 minutes

لا أتذكر فيلمًا شاهدته وأثر في إلى الدرجة التي أحدثها فيلم «محطة البرازيل» الذي حمل بالإنجليزية اسم Central station للمخرج البرازيلي والتر ساليس، الذي نال عنه جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي الدولي عام 1998. وأثناء تحضيري لرحلة مهرجان فينيسيا هذا العام، قرأت اسم فيلمه الأحدث «لا أزال هنا» I’m still here والمبني على كتاب بذات الاسم لمارسيلو روبنز بايفا، فأصبح هذا الفيلم على قائمة أولوياتي في المشاهدة، فاحتمال مشاهدة فيلم كـ«محطة البرازيل» في عرضه العالمي الأول، هو شيء يُشد إليه الرحال بكل تأكيد. 

شاهدت الفيلم في «سالا جراندي» أو القاعة الكبرى في مهرجان فينيسيا في دورته الـ81، ورغم أن الفيلم لا يوازي في قوته ولا لغته البصرية فيلمي المفضل له، إلا أن به بعض من الروح الإنسانية الخالصة التي يحكي بها أفلامه. تبدأ أحداث الفيلم في البرازيل، عام 1971، حيث البلد تقبع في الظل القاتم للديكتاتورية، وتنحدر نحو هاوية سحيقة وسط قبضة عسكرية عنيفة. الأسرة هي أسرة كاتب الرواية والحكاية مروية من ناحية الأم لا الأب، حيث تحاول جبر أثر اختفاء زوجها القسري على أطفالها الستة. 

مشهد من فيلم I'm Still Here
مشهد من فيلم I’m Still Here

في بداية الفيلم، والتي شابها بعض من التطويل في عملية التقديم، نرى العائلة البرازيلية السعيدة تعيش في منزل يقع على البحر، أب وأم يعملان في وظائف مرموقة وستة أطفال من أعمار مختلفة يلعبون على البحر. لا يعكر صفو تلك اللحظات في البداية سوى بعض من توترات سياسية نراها على التلفاز أو توقيفات أمنية للابنة الكبرى في كمين أمني. تبدو الحياة هنا كأجمل حياة على الأرض، مليئة بالأصدقاء والطعام الجميل والجو البديع. 

بعد مرور تلك المقدمة، تبدأ الأحداث في التحرك بتوتر سريع، إذ يقبض على الأب والأم وابنتهما. نرى التحقيقات مع الأم والابنة، ثم نتابع رحلة الأم وهي تحاول العثور على زوجها الذي اعتقلته الشرطة. كفانا سردًا للأحداث، ولنتحدث عما يميز الفيلم فعليًا، فالأحداث سيكتشفها المشاهد للفيلم عند الفرجة عليه، لكن ساليس ليس مجرد حكاء لرواية وإنما سينمائي مخضرم، يستعمل كل أدواته البصرية والسمعية لنقل تجارب شخصياته إلى الجمهور.

مشهد من فيلم I'm Still Here
مشهد من فيلم I’m Still Here

 اختيار وتوجيه الممثلين هو أول ما يلفت الانتباه في فيلم ساليس الجديد، إذ يعمل المخرج مع فرناندا توريس، ابنة بطلة «محطة البرازيل» فرناندا مونتينغرو، يأتي التشابه بين الأم والابنة في صالح الفيلم، فكل من شاهد الفيلم الأول سيشعر وكأنه يشاهد نسخة من بطلته، بكل تعبيراتها، كما أن الابنة لا تشبه الأم فقط شكليًا وإنما في قوة أدائها التمثيلي المتمكن لتقديم شخصية حساسة ومرحة وقوية في الوقت ذاته، تأتي تعبيراتها مقتصدة بشدة في الفيلم، وهو ما يلائم شخصية أم تبحث عن زوجها لكنها لا تود إدخال الخوف في نفسيات أطفالها في ذات الوقت. 

العنصر الثاني الجاذب للانتباه هو تلك اللحظات الإنسانية التي يخلقها ساليس بين شخصيات فيلمه حتى وإن اختلفت في مواقعها السياسية، إذ ينشأ شيء من تواطؤ أو تضامن خفي بين عسكري في السجن والأم يعبر بشكل ما عن الأحاسيس المعقدة في فترة زمنية شابها التوتر والغموض. ذلك التضامن يجعلك تدمع للحظة أو للحظتين ويدفعك للإيمان بقوة الحب والإنسانية حتى في أحلك لحظات التاريخ، لحظات يسرقها الضعفاء من الأقوياء ليبقوا أحياء، وليحافظوا بها على إنسانيتهم وعلى عقولهم أيضًا من أن تصدق أن العالم مخزن مُكرس للشرور. الكتابة هنا هي بطل بكل تأكيد، إذ أن الشخصيات لا تنهزم أمام أي من الأحداث، تضعف لبعض الوقت، ثم تقاوم، وتنكسر ثم تكمل الطريق لتستمر الحياة رغم كل المصاعب. 

مشهد من فيلم I'm Still Here
مشهد من فيلم I’m Still Here

يجب التنويه أيضًا إلى عنصر آخر يستخدمه ساليس في صناعة فيلمه وهو شكل الكادر المصور بشرائط الخام المحمولة (سوبر 8) والتي شاع استخدامها في الفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث الفيلم، إضافة إلى طرق التواصل بين الابنة المهاجرة إلى لندن مع الأسرة البرازيلية تتحول في حد ذاتها إلى فيلم داخل الفيلم، إذ تُخلط في تلك اللحظات الرسائل المكتوبة – والمنطوقة على لسان الشخصيات – مع شرائط خام صامتة ليخلق نوعًا من مذكرات بصرية استعملها البشر للتواصل قبل عصور مكالمات الفيديو والرسائل الصوتية. 

صنع ساليس الفيلم في السنوات السبع الأخيرة في البرازيل، تأثرًا بسنوات قضاها مع أطفال عائلة بايفا، وبناء على كتاب كتبه صديقه، أثر فيه البيت القديم للعائلة فجاء تقديمه له مطولًا، لكنه أيضًا ينوه إلى أن خلال تلك السنوات التي قضاها في صناعة الفيلم، انحدرت بلاده إلى هاوية مشابهة، ما يجعل من فيلمه، وإن لم يكن أكثر أفلامه سينمائية، بمثابة جرس إنذار لكيلا ننحدر إلى ذات الهاوية التي ما زالت أجيال تعاني من صدماتها. 

اقرأ أيضا: «ينعاد عليكو».. حكايات اسكندر قبطي العادية المُدهشة

شارك هذا المنشور