لاف دياز فنّان استثنائي يقف في مواجهة عالم يمضي بأقصى سرعته نحو الاختزال والتسطيح والتغليف البصري الفوري. هذا المخرج الفيليبيني، 66 عامًا، فرض نفسه سينمائيًا متقشّفًا في إمكاناته، كثيفًا في رؤيته، بطيئًا بالمعنى الأجمل لذلك البطء الذي يتيح للعالم أن يتكشّف وللزمن أن يُعاش وللحقيقة أن تُصغي إلى نفسها.
نشأ دياز في قلب الفقر، فبلور وعيًا مبكرًا بالتناقضات: بين السلطة والمهمّشين، بين الواقع والرغبات، بين الصورة والحقيقة. نهل من السينما كما يشرب طفل من نهر. تربّى على الأفلام التجارية، قبل أن يتلقّى صدمة «مانيلا في مخالب النور» التي غيّرت حياته. اشتغل في الصحافة وكتب السيناريوهات وعاش المنفى، وعرف اليتم الروحي الذي تخلّفه السلطة.
في أفلامه التي تمتد إلى سبع، عشر، وأحيانًا إحدى عشرة ساعة، لا يلهث لاهثًا وراء الحبكة. سر سينماه في التفاصيل. الزمن عنده ليس تقنية بل موقف. الكاميرا ليست عيناً سلطوية إنما شاهد متأمل في مصائر البشر. الصوت لا يطغى على الصمت بقدر ما يُمنَح فسحة الوجود.
دياز ليس مخرجًا فحسب، هو كاتب، شاعر، منفيّ جوّاني، حكواتي، حالم… ينسج أفلامه من مادّة الحياة الخام: العنف المستتر، الموت المجاني، الدين كأداة ذنب، والذاكرة كمسرح للنجاة. في كلّ لقطة طويلة، وكلّ حركة بطيئة، وكلّ صمت ممتد، هناك احتجاج ناعم، وتحرّر بطيء، لكن ثابت، من السينما كصناعة إلى السينما كفعل أخلاقي.

في هذا الماستر كلاس الذي قدّمه ضمن ملتقى «قمرة» (الدوحة)، اقترح علينا دياز رحلة داخل عقل فنّان يرى في السينما آخر معاقل التأمّل، وآخر المساحات التي يمكن أن نطرح فيها أسئلة بسيطة ومروعة: كيف نعيش، ولماذا نموت، وماذا نفعل بكلّ هذا الألم؟
1 – «عشنا في الغابة محوطين بالثعابين والبعوض والتماسيح»
«كان والدي مولعًا بالسينما إلى حد الإدمان. عمل في مجال الشؤون الاجتماعية، بينما كانت والدتي معلّمة في مدرسة حكومية. كنّا نعيش في بلدة صغيرة، تبعد نحو ساعتين عن أقرب أربع صالات سينمائية. ورغم مشقّة الطريق، كان والدي يأخذنا في عطلات نهاية الأسبوع أو خلال الإجازات الرسمية إلى هناك. وما إن نصل، حتى نغوص في الأفلام، فنشاهد ما يصل إلى ثمانية أفلام خلال أيام قليلة. نشأتُ وسط هذا السيل الجارف من الصور التي ظّلت تتردّد في ذهني وتغذّي مخيلتي.
دخلت السينما حياتي باكرًا. وعندما بلغتُ من العمر ما يكفي لأسأل نفسي عمّا أريده حقًا، وجدتني ممزّقّا بين الروك أند رول والسينما. لكن الروك لم يكن يقدّم شيئًا سوى المخدّرات والفقر والتهميش. أما السينما، فبدت لي نافذة على النجاة. نشأتُ في فقر مدقع، في منزل بلا كهرباء حتى سنوات دراستي الجامعية. عشنا طويلًا في قلب الغابة، محوطين بالطين والثعابين والبعوض والتماسيح. تلك كانت حياتنا. وفي بعض الأحيان، كان الجيش يدهم القرية ويطرق الأبواب، ناشرًا الخوف. هكذا كان المشهد في أواخر الستينات، حين كنت طالبًا في الثانوية.
عندما انتقلتُ إلى مانيلا لمتابعة دراستي الجامعية، كانت السينما الفيليبينية تمرّ بعصرها الذهبي. أواخر السبعينات وبدايات الثمانينات شهدت بزوغ أسماء مميزة، مثل لينو بروكا، إشمايل برنال، ومايك دي ليون. لا أنسى تلك اللحظة المفصلية التي شكّلت وعيي السينمائي: كنت في سنتي الجامعية الأولى، وطلبت منّا أستاذة الأدب مشاهدة فيلم «مانيلا في مخالب النور» للينو بروكا، وكتابة مراجعة عنه.
ما إن شاهدتُ الفيلم، حتى تبدّل كلّ شيء في داخلي. كانت تلك أول مرة أرى فيها سينما فيليبينية تمتلك وعيًا اجتماعيًا حادًّا، تنطق بلسان الناس. تلقّيتُ الفيلم كصفعة أيقظتني من غفلة. من تلك اللحظة، أصبح بروكا مثالي الأعلى، بطلي الحقيقي. في ظلّ حكم ماركوس، كان أحد أكثر الأصوات جرأةً ومقاومةً، سواء من خلال أفلامه أو مواقفه السياسية. «مانيلا في مخالب النور»، من أولى التجارب السينمائية المستقلة الحقيقية في الفيليبين، صُوّر في سبعة أيام فقط، وبموازنة ضئيلة، لكنه خرج تحفة سينمائية لا تقلّ عن روائع السينما العالمية. فيلم ينبغي للجميع مشاهدته».

2 – «هكذا غرقتُ تدريجًا في عالم السينما»
«بعد تخرّجي، وتحديدًا خلال السنوات الأخيرة من حكم ماركوس، بدأتُ أكتب سيناريوهات. من المفارقات أن كثيرًا من تلك الأفلام، بما فيها أفلام «البومبا» ذات الطابع التجاري الصرف كانت مموّلة من النظام نفسه. كتبتُ في تلك الفترة عددًا من الكوميديات، وكانت بدايتي الفعلية في هذا المجال. لم أضع اسمي على الأفلام الأكثر ابتذالًا، لكنني كنتُ جزءًا من ماكينة الإنتاج. كان هناك نظام يقوم على التصوير خلال سبعة أيام، والمونتاج خلال سبعة أيام أخرى. وتيرة الإنتاج كانت سريعة بشكل مذهل، تضخّ عشرات الأفلام في وقت قصير. أنا بدوري، صنعتُ ثلاثة أفلام وفق هذا النظام. بهذه الخطوات، بدأت مسيرتي.
ثم سافرتُ إلى نيويورك كعامل فيليبيني، بدعوة من مجموعة طالبية صغيرة. أقمنا معرضًا فوتوغرافيًا، ونظّمنا عروضًا فنية في مدن عدّة: نيويورك، سان فرانسيسكو، تشيكاغو. وعندما وصلنا إلى نيويورك، طلبوا مني أن أبقى. ومن هناك، بدأت انطلاقتي الفعلية، فغرقتُ في عالم السينما، أعمق فأعمق».
3 – «اللحظة أذكى من أي صفحة مكتوبة»
«أول فيلم لي لفت الانتباه كان «باتانغ الجانب الغربي»، ملحمة عن تجربة الفيليبينيين في أميركا. رسمتُ من خلاله صورة بانورامية للهجرة، من الأعلى إلى الأسفل. عشتُ وسط هذا المجتمع، عملتُ وأفراده، تقاسمتُ همومهم اليومية. كنت أقيم في جيرسي سيتي، على طريق واسع يُعرف باسم وست سايد أفنيو. حين بدأتُ العمل في صحيفة «فيليبين دايلي إكسبرس»، كان هناك نحو أربعين ألف فيليبيني يعيشون في المنطقة. فبدا لي من الطبيعي أن أبدأ من هذا المكان. هكذا، راح الفيلم يتشكّل في ذهني. اشتريتُ كاميرا 16 ملم وبدأتُ التصوير. لم تكن هناك خطّة واضحة. تركتُ الغريزة تقودني.
الفيلم عن مقتل شاب فيليبيني والتحقيق الذي أعقبه، لكنه سرعان ما يتشعّب إلى قضايا أوسع. حاولتُ أن أوازن بين كلّ شيء. كنتُ أعمل في الصحيفة ثلاثة أيام في الأسبوع، وأكتب السيناريو في المساء، وأقوم بأعمال متفرقة لأموّل الفيلم. صوّرناه وسط ظروف قاسية، مع فريق صغير وفي برد نيويورك الذي لا يرحم. راجعتُ السيناريو ثلاث مرات خلال التصوير. حين تكتب داخل غرفة مغلقة، تدور الأفكار في حلقة مفرغة. لكن حين تخرج بالكاميرا إلى الشارع، ينكشف لك الواقع فتستيقظ حواسك. عليك أن تصغي إلى تلك اللحظة، لأنها أذكى من أي صفحة مكتوبة».

4 – «الفيليبين لا تزال فاسدة، غارقة في الجهل»
«كثيرًا ما أُسأل إن كانت شخصية مخرج الوثائقي في هذا الفيلم انعكاسًا لذاتي، وجوابي هو: بالطبع! كلّ فيلم هو حوار مع الذات، مع الأنا والماضي والروح. ثمة شيء داخلك يراقبك دومًا. حتى وأنا أعمل نادلًا، كنت أُخزّن كلّ شيء وأعالجه داخليًا. تلك الشخصية مرآة. كنت في تلك الأيام أعيش كطيف، أتجوّل بلا عنوان.
عرضنا «باتانغ الجانب الغربي» للمرة الأولى في الفيليبين. كانت القاعة مكتظّة، رغم أن مدة الفيلم تجاوزت الخمس ساعات. صفّق الناس طويلًا، غير أننا لم نكن متأكّدين: أيصفّقون لأن الفيلم انتهى، أم لأنهم فهموا شيئًا ممّا رأوه؟ أنجزتُ الفيلم في العام 2001، وها نحن اليوم في العام 2025، نحاكم رئيسًا قاتلًا في لاهاي. لكن ماذا تغيّر حقّاً؟ لا شيء. النظام لا يزال فاسدًا، غارقًا في الجهل. والوقت يضغط علينا. يجب أن نتحرك بسرعة».

5 – «نحن نسيج مرقّع، جسد من ثقافات مفروضة ومستوردة»
«وأنت تصوّر، هناك أمران تراهما بوضوح: إرهاق الناس من جهة، وظلم الماضي من جهة أخرى. تراهما مجتمعين عبر عدسة الكاميرا. هذا ليس مجازًا، بل حقيقة تاريخية: قرون من الاستعمار الإسباني، ثم الأميركي، ثم حقبة الأحكام العرفية، وبعدها الهجرة القسرية بحثًا عن عمل، بعيدًا من الأهل، وأنت لا تدري ما إذا كانوا سيبقون في حياتك أم لا. ظلام يتلوه ظلام. أما الجنون، فهو ميراث خمسين عامًا من الاستعمار الأميركي للفيليبين. تلك الجملة الشهيرة التي قالها المخرج هنري كينغ هي من أصدق ما قيل: «ثلاثمئة عام في دير، وخمسون في هوليوود». نحن مجانين حتمًا. أنظر إليّ الآن: أتكلّم بالإنكليزية، أرتدي بنطال «ليفايس»، حذائي أميركي الصنع، أما هذه النظّارات فوجدتها في إسبانيا. خليط بخليط. نحن نسيج مرقّع، جسد من ثقافات مفروضة ومستوردة».
6 – «توجد شاعرية في النضال من أجل النجاة»
«الزمن في أفلامي يخضع لمنطق ثقافي مختلف. الفيليبينيون، وربما شعوب جنوب شرق آسيا، لا تحكمهم فكرة الزمن الغربية. في الفيليبين، نعيش في حضن الطبيعة، لا نتحكّم بها. لدينا نحو عشرين إعصارًا كلّ سنة، لا أمطار فقط، بل أعاصير عاتية. حياتنا قائمة على الانتظار: أن يتوقّف المطر، أن ينحسر الفساد، أن ينتهي شيء ما. فضاؤنا دائماً على وشك الانهيار، ولذلك فإن تصوّرنا للزمن والمكان مختلف. في الغرب، هناك حركة مستمرة نحو البناء والتقدّم، أما نحن، فنصارع لننجو. وهناك شاعرية ما في هذا النضال المستمر من أجل النجاة».
7 – «السينما حرفة المنعزل التائه»
«تسألني كيف أنجزتُ سلسلة من الأفلام الطويلة، الراديكالية، وكيف استطعتُ إنتاج أعمال تمتد لسبع، عشر، بل الى إحدى عشرة ساعة. ليتنا نملك زجاجة روم الآن، لكنّا تحدّثنا طوال إحدى عشرة ساعة، وهي بالضبط مدّة فيلم
«تطوّر العائلة الفيليبينية» الذي عملتُ عليه طوال عشر سنوات. بدأته في ماريلاند وفرجينيا، وأنهيته في الفيليبين.
السينما، كما أفهمها، هي عمل المنفى. هي حرفة المنعزل، التائه. تمشي في درب لا تعرف أين ينتهي. تكتب شعرًا، تصنع أفلامًا قد تُتَّهم بأنها إباحية، تقع في الحبّ، تتحطّم، وتستيقظ على حزنٍ ثقيل. تلك هي الحياة.
أشتغل على أفكار كبيرة، لكنني أعبّر عنها من خلال تفاصيل صغيرة. ذلك «الهراء» الذي يكشف كيف يعمل النظام حقًّا. ولهذا السبب أفلامي طويلة. لا أريد اختزال العالم، أود عرضه كاملًا، بكل ما فيه من تناقضات ومفارقات. كما في أدب تولستوي أو دوستويفسكي: لا يمكن ضغطهما في سطرين، لأن التجربة الإنسانية تحتاج إلى مساحة، إلى نَفَس طويل».

8 – «الهدف ليس أن نرى ما يحدث، بل أن نشعر به»
«السينما، بالنسبة لي، يجب أن تكون فضاءً نرى فيه الحياة، لا يجب أن نخدعها بالموسيقى أو بالحيل البصرية. ينبغي أن نمنحها مساحة. السينما، عندي، لم تعد «تتحرك» كما كانت. صرتُ أكثر كسلًا، أو لعلّي أصبحتُ أكثر تأمّلًا. أحاول، بطريقتي الخاصة، أن أنزع عن العين سطوتها كأداة تفرض الإيقاع والحركة في السينما. كأنه فعل تحرّر. ما أريده هو فضاء للنقاش، للحوار. أن نشاهد فقط ما يحدث، من دون أن نفرض عليه معنى جاهزاً. حتى الموسيقى لا أرغب في فرضها؛ هي، في أفضل أحوالها، مجرد صوت خافت يرافق الحديث البسيط عن الحياة.
لطالما وجدتُ صعوبة في تقبّل فكرة «صناعة» السينما، خصوصًا ذلك الهوس بالحركة السريعة. أريد أن أرى أكثر، أن أبطّئ الزمن كي أستوعبه. لا يشغلني ما تروّجه مدارس السينما من لقطات متوالية، 12 أو 15 أو 35 لقطة لمشهد واحد. طموحي مختلف: أن أُوحّد المكان والزمان في لقطة واحدة، كما تفعل الحياة نفسها. لأن هذا هو، ببساطة، ما يساعدني على الفهم. هذا التوجّه قريب من روح الأدب الروسي: تولستوي، دوستويفسكي، تشيخوف. الهدف ليس أن نرى ما يحدث فقط، بل أن نشعر به، أن نحيا داخله لحظة بلحظة. كثير من الأصدقاء المصوّرين عندما أطلب مساعدتهم، يقولون لي مازحين: هذا نوع كسول من صناعة الأفلام. لقطة واحدة، لا شيء يحدث، أنت لا تحتاجنا! أرد عليهم: لكن هذه هي طريقتي لفهم الحياة. فقط أحدق فيها».
9 – «النوع ليس قرارًا، بل نتيجة أثرٍ عميق»
«الفصل بين السينما الوثائقية والروائية أمرٌ يثير فيّ الرعب. كلّ شيء حكاية. السينما الروائية ليست سوى مرآة للوثائقية، والعكس صحيح. كلتاهما تنبعان من الواقع. حتى حين تكون السينما ذاتية، تبقى متجذّرة في تربة الحقيقة. هي، ببساطة، سينما… سينما بحق الجحيم! أحب الأنواع (الـ«جانر»). أحب المزج بينها، تفكيكها، اللعب بها. لكن بصراحة، لا أفكّر بمفهوم النوع عندما أبدأ العمل. تربّيتُ على مزيج من الأفلام: الدراما الفيليبينية، أفلام الغرب الأميركي والوسترن الإيطالي. كلّ هذا يتراكم في داخلك ويتحوّل إلى ذاكرة، إلى لحم حيّ. النوع ليس قراراً، بل نتيجة أثرٍ عميق».

10 – «الدين غرس فينا الشعور بالذنب»
«العنف جزء من نسيج ثقافتنا. نحن، الفيليبينيين، شعب عنيف في العمق. لكنني لا أُظهر العنف مباشرةً. لا حاجة لذلك. يكفي أن يُشعَر به، يُسمَع، يتسرّب إلى الحواس من دون أن يُقال. إنه عنف مضمر، ساكن في الخلفية، كظلّ لا يغادر المكان. أما الدين في بلادنا فجاءنا كعبء. فُرض علينا لا ليمنحنا الروحانية، بل ليغرس فينا الشعور بالذنب. الاضطراب الحقيقي، مكانه في الشارع، بين شعوب الملايو، في ذلك الحزام الجغرافي المهمل. تعلّمنا أن نُخفي ذنوبنا، أن نتظاهر بالطهارة، تمامًا كما فعل ماركوس، وكما يفعل كلّ السياسيين القذرين الذين يحكمون بلادي اليوم».
11 – «البحث عن الحقيقة وسط عالم مليء بالكذب»
«حين وصلنا إلى إحدى الجزر، لم يكن هناك شيء يُذكر. لكنها أوحت لي على الفور بفكرة استلهمتها من قصّة قصيرة لتولستوي، عنوانها «الله يرى الحقيقة، لكنه ينتظر». قصّة غامضة وعذبة عن رجل يتاجر بالبضائع الرخيصة في أرجاء روسيا، يستيقظ ذات صباح ليجد نفسه بجوار جثّة وسكّين. يُزجّ به في السجن، ويُدمَّر مستقبل عائلته. من تلك الشرارة، وُلدت فكرة «المرأة التي غادرت».
استكشفتُ الجزيرة، وجدتُ المكان المناسب، وبدأنا التصوير. كنّا أربعة فقط في فريق العمل. دعونا الممثّلين إلى هناك. استخدمنا كاميرا صغيرة، إلى درجة أن إحدى الممثّلات قالت لي: هل تراني من خلال هذه الكاميرا؟ إنها صغيرة جداً!، فأجبتها: نعم، أراكِ. ثم سألت: وهل تسمعني بها؟، فقلت: نعم، أسمعكِ. عشنا على الجزيرة وصوّرنا الفيلم خلال شهرين.
هذا الفيلم ليس عن قصّة واحدة، بل عن الإنسان الفيليبيني، عن الإنسان ككائن يبحث عن الحقيقة وسط هذا العالم المليء بالكذب. نحن نعيش في حالة تيه دائم. نستيقظ كلّ صباح، لكن مَن منّا سعيد حقًا؟ كلنا نحمل حزننا، نحاول فهم الألم. هذا هو جوهر الفيلم».

12 – «الموت جزء من حياتنا اليومية»
«الموت، وكيفية التصالح معه، فكرة تتكّرر كثيرًا في أفلامي، لأنها متغلغلة في تجربتي. نشأتُ في جنوب شرق آسيا، في الجنوب الفيليبيني، حيث الموت جزء من الحياة اليومية. السل، شلل الأطفال، الملاريا… رأيتُها جميعًا. الشعوب الأصلية التي كان والداي يعملان معها، عاشت مع هذا الواقع بشكل دائم. في الجنوب، حيث المسلمون، كان الموت مشهدًا مألوفًا، بل مألوفًا أكثر ممّا يجب. هذا الوجود المكثّف للموت أصبح جزءًا من الجمالية الملايوية. ليس في الفيليبين فحسب، بل في ماليزيا، وسائر جزر المنطقة. بالنسبة للملايو، الموت دومًا قريب، على مرمى نظر».
اقرأ أيضا: لاف دياز: السينما ليست خيالًا أو وثائقيًا… إنها مرآة لما لا نراه