فاصلة

مراجعات

«كعكتي المفضلة».. عن الموت الذي يلتهم الأشياء

Reading Time: 5 minutes

وسط أجواء الدورة الخامسة والأربعين من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، كان الفيلم الإيراني «كعكتي المفضلة – My Favorite Cake» للمخرجين بهتاش صانيها ومريم مقدم، أحد الأعمال التي أثارت إعجابًا واسعًا داخل القسم الرسمي خارج المسابقة الدولية. فالفيلم لم يكتفِ بجذب الانتباه فحسب، بل نجح في تحقيق إجماع نادر على محبته بين الجمهور والنقاد على حد سواء، ليصبح علامة فارقة ضمن فعاليات المهرجان.

برؤية سينمائية تجمع بين البساطة والعمق، يسلط الفيلم الضوء على تفاصيل الحياة اليومية الرتيبة لعجوز سبعينية تُدعى «ماهين»، التي تعيش وحيدة بعدما غادر أبناؤها للعيش بعيدًا عنها، ووفاة زوجها منذ ثلاثة عقود وتركوها غارقة في عزلة خانقة. من خلال هذه الحكاية، يقدم الفيلم تأملًا شاعريًا في الوحدة، الحب، ورغبة الإنسان في كسر رتابة الحياة، حتى ولو جاء ذلك بتمرد هادئ على الواقع. 

كعكتي المفضلة
فيلم (My Favorite Cake – 2024 )

نرى «ماهين» في البدء نائمة في بيت ذي إضاءة زرقاء خافتة توحي بأنه منزل بلا حياة، وكأنه بيت أشباح خالٍ من الروح، يقطع ذلك السكون القاتل صوت رنين الهاتف فنرى «ماهين» تتحدث إلى ابنتها بينما هي نصف نائمة. نراها أيضًا بينما تقوم بأنشطتها اليومية من تحضير الطعام والذهاب للتسوق والانتهاء بالسهر أمام التلفاز ليلًا أمام مسلسل مُغرق في رومانسيته.
من البداية نلحظ الوحدة المسيطرة بضراوة على حياة «ماهين»، كل شيء من حولها ساكن، ويمتد ذلك إلى طريقة حركتها حتى، فنراها أقرب للدب في حركته، حركة جسد ذات إيقاع بطيء خالي من الإرادة.
نرى أصدقاء ماهين مجتمعين على منضدتها، بينما هي شاردة، مستغرقة ببراءة الأطفال في حكيهم، ومن خلال ردود الفعل تلك يتبين أنها لم تعش الحياة منذ وقت طويل، وربما لم تعشها أبدًا.

كعكتي المفضلة
فيلم (My Favorite Cake – 2024 )

تقرر «ماهين» إيجاد الونس، والونس عندها هو شريك؛  رجل يشاطرها تلك الوحدة كما ترى في سهراتها الليلية، فتبدأ «ماهين» رحلة البحث عن ذلك الشريك، ورغم رومانسيتها الكبيرة إلا أنها واعية بشكل فطري بحدود واقعها، فهي مُدركة تمامًا لعمرها -بعيدة كل البعد عن محاولة إنكاره-، ويتبين ذلك من سؤالها المتكرر عن الأماكن التي يجلس فيها العجائز في الحديقة والمطعم، ويتم التوكيد على ذلك عندما تجلس ماهين وحدها في الحديقة ويدور بينها وبين عامل النظافة حوار عن الأماكن التي يعتاد كبار السن الجلوس فيها.

تنتهي رحلة بحث «ماهين» عن مكانها المنشود بالذهاب إلى مطعم خاص بكبار السن، وهناك تجد مجموعة من الرجال مجتمعين على منضدة طعام، ومستغرقين في الحديث، لكنها لا تهتم بأي منهم، ويراودها شعور بالملل حتى تقع عيناها على «فرامرز»، الذي يجلس وحيدًا في معزل عن الآخرين ويتناول طعامه في هدوء.

اللافت في اختيار «ماهين» لـ«فرامرز» أن معاييرها في الاختيار تعتمد على مقاييس مناقضة تمامًا لصورة فارس الأحلام. فـ«فرامرز» من الوهلة الأولى يبدو رجلًا منطويًا، ليس وسيمًا كثيرًا، بل تغلب عليه السذاجة. ويتبين أن السبب الوحيد الذي دفعها للانجذاب إليه هو كونه وحيدًا مثلها فقط. وهنا تخالف «ماهين» كل السرديات الرومانسية السابقة وتكسرها.

كعكتي المفضلة
فيلم (My Favorite Cake – 2024 )

بعد لقائهما في التاكسي الخاص به، تطلب «ماهين» من «فرامرز» أن تصطحبه إلى بيتها ويقضي معها بعضًا من الوقت. وهو فعل مليئ بالمتمرد وغير تقليدي بالنسبة للمجتمع الإيراني والإسلامي بشكل عام.

ما يميز تصرف «ماهين» أنه ينبع من ثورة داخلية عفوية، متخفية تحت غطاء بسيط من البحث عن الرفقة والونس. هذا السلوك يمتد أيضًا إلى دفاعها عن فتاة شابة في الحديقة عندما أوقفتها الشرطة بسبب ظهور جزء من شعرها خارج غطاء الرأس. دفاع «ماهين» عن الفتاة لا يبدو كفعل سياسي أو ثوري بوعي مسبق، بل هو فعل إنساني وعفوي تمامًا، نابع من تجربتها في حقبة ما قبل الثورة الإيرانية، حيث تمتعت النساء بحرية طبيعية دون قيود صارمة.

هذه الأفعال تتسق مع سخط «ماهين» العفوي وغير المباشر على حاضرها، الذي يبدو مصطنعًا وتعسًا، ففي بداية الفيلم مثلًا نراها تستغرب من خبر وجود روبوتات تساعد في غسيل الأطباق وأعمال المنزل وتخوض الحوارات مع الإنسان، وفي وقت لاحق تستغرب أيضًا من فكرة الماسح الضوئي في المطعم. تلك الأمور تؤكد على إحساسها بالسخط، حتى وإن كانت غير واعية لذلك، وهنا تلهمنا بأن الفعل الثوري هو فعل إنساني في البدء من الدرجة الأولى. إن «ماهين» تحبذ العفوية بطبعها ولذلك عند طلبها من «فرامرز» الإقامة معها نجد فعلها متسق تمامًا مع شخصيتها- الثورية جدًا بلا تكلَف.

فيلم (My Favorite Cake - 2024 )
فيلم (My Favorite Cake – 2024 )

بعد دخول «فرامرز» إلى بيتها نشعر بخفة «ماهين» التي تبدو في حركاتها وكأنها أصبحت أقرب للفراشة، ترقص وتغني وتضحك، وهي صورة مناقضة تمامًا للصورة التي ظهرت عليها في البدء، فمن حركة الدُب الثقيلة – الكسولة جدَا – إلى حركة انسيابية – خفيفة ومرحة، من الأزرق الباهت الذي يخيم على أجواء البيت إلى أصفر دافئ وحميمي، ومن السكون القاتل إلى موسيقى مبهجة تحبذ الفرح والاحتفاء بالحياة.

الفارق الجوهري يكمن في دخول «فرامرز» إلى عالم «ماهين». المفارقة أن «فرامرز» لا يقوم بأي شيء استثنائي؛ فهو ليس مبادرًا ولا يسعى إلى تغيير حياتها، بل يكتفي بالإنصات والمراقبة. ومع ذلك، يكشف سلوك «ماهين» الحيوي أن كل ما احتاجته طوال الوقت كان وجود رفيق فقط، ليمنحها الشعور بالونس والتقدير.

أجواء الاحتفال وتبادل الأحاديث بين «ماهين» و«فرامرز»، يذكرنا بأفلام مثل «Amour» لمايكل هانكه، و «Vortex» لجاسبر نوي، والتي تناولت قصص عجائز جمع بينهم الحب، لكن الفارق أن ثنائية «فرامرز» و«ماهين» تحبذ الفرح والاحتفاء بالحياة، وتراها كهبة لا تنتهي، لذلك نجدهما لا يتوقفان عن التمتع بالطعام والشراب والرقص، في مشاهد تذكرنا بنهاية «الحب في زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز، فرغم مرور زمن طويل على حب «فلورينتينو» لـ«فيرمينيا» إلا أنهما يلتقيان ولمرة أخيرة وهما كهلان على سفينة، يحتفلان بالحياة بطريقة متطرفة، فيبدو احتفالًا أبديًا من فرط شاعريته.

فيلم (My Favorite Cake - 2024 )
فيلم (My Favorite Cake – 2024 )

الملفت في المشاهد الاحتفالية والتي تجمع ماهين بفرامرز هو تمردها على سينما محافظة- مألوفة ومعتادة تبعت الثورة الإيرانية، فبداية بسوهراب شاهيد ساليس ومرورا بمحسن مخملباف وكيارستامي وبناهي ورسولوف وحتى فرهادي، وضع المخرجون أنفسهم- وهو مفهوم ضمن سياق معاصر – خانق للفن والحريات- في تابوهات لا تكسر، فابتعدوا عن المشاهد الحميمية بكل أشكالها، وهذا ما يجعل من مشاهد الحب تبدو جافة في غالبية أعمال السينما الإيرانية، هنا الأمر مختلف، موسيقى عالية وحب وفرح واحتفاء بالحياة، فكرة الاحتفاء بالحياة كهبة هي أيضا مغايرة لسياق السينما الإيرانية المعتادة، فهي سينما تميل لنزعة تشاؤمية وباردة، مشوشة جدا تجاه الحياة، ولكن على النقيض كان فيلم كعكتي المفضلة، فأبطاله بمجرد اقتناصهم لحظة فرح يستغلونها بكل رغبة وإرادة، فتبدو تلك روحا جديدة تتخلل السينما الإيرانية، وتلك المعارضة تحديدا هي أكثر ما أثار إعجابي بالفيلم.

كعكتي المفضلة
فيلم (My Favorite Cake – 2024 )

بعد ليلة استثنائية ينتهي الأمر بـ«فرامرز» جثة هامدة على سرير «ماهين»، موت مفاجئ يصعقها في ليلة عمرها، وبخبرتها السابقة في التمريض تحاول إنعاشه من جديد لكن بلا أية فائدة. عليه تتعامل «ماهين» مع الأمر كما تتعامل مع كل أمور حياتها، وبشاعرية تامة تدفن «فرامرز» في حديقتها. الحديقة التي نستشف أنها مجاز لقلب ماهين، والتي نراها من البدء تعتني بها بكل حب، وتؤمن بأبدية البقاء للنباتات، بالتالي تضع ماهين فرامرز في قلبها، فيبدو وكأنه حب أبدي لن يفنى بزوال الجسد.

اقرأ أيضا: «دخل الربيع يضحك»… استعادة ناجحة للواقعية المصرية

شارك هذا المنشور

أضف تعليق