تبدو رواية «Dune» للكاتب الأمريكي فرانك هربرت، صعبة القراءة. إنها رواية ثقيلة ومشبعة بالمفاهيم المُختلقة أو المقتبسة من روافد شرقية عديدة، من بينها الأدبيات الصوفية الإسلامية، وفي عالمها مترامي الأطراف يقبع صراع سياسي معقد يسلط الضوء على قمع الشعوب واستخدام الدين للسيادة على السلاح والموارد الطبيعية. وبسبب رتم الرواية البطيء والحوارات التي تبدو لي سطحية في بعض الأحيان كشخص عربي ومسلم، سوف يكون من الصعب للغاية تحويل هذه الرواية إلى عمل مرئي ممتع يسهل استهلاكه. لذلك انتشر الحماس وسط الأوساط السينمائية حينما أعلن عن تولي المخرج دوني فيلنوف قيادة هذه المهمة.
لكل مخرج سمة خاصة، وصوت يميزه عن غيره، وتوجه سردي يدفع به إلى نوع خاص من القصص التي يحب تحويلها إلى الشاشة الكبيرة. السمة الخاصة التي تميزه ﭬيلنوف عن غيره هو قدرته على التأقلم مع أي نوع من القصص، واستطاعته على إيجاد صوته الفريد وسط زخم أحداث ملحمية فضائية. وبالنظر إلى السيرة الذاتية لهذا المخرج الفذ، نلاحظ التنوع القصصي الذي يعتنقه بدون أي تردد، بتدوير مستمر للكتاب الذين يعمل معهم سواءً شاركهم في كتابة النص أم لا.
في السابق، كان من الواضح قدرة ﭬيلينوف الرائعة على سرد قصص في حيز ضيق لشخصيات معدودة، لكن قدرته على التوسع وشمل عوالم أكبر في جعبته، ظهرت جليًا في «Arrival» و«Blade Runner 2049»، وأتى الفيلم الأول من سلسلة «Dune» لشكل دليلًا قاطعًا، ليس على الموهبة السردية للمخرج فحسب؛ بل وقدرته على خلق عوالم غامرة كثيفة التفاصيل، و ملاحم إنسانية على نطاق واسع.
إن «Dune» تجربة سينمائية عظيمة، كل ما فكرت فيه مع نهاية الفيلم هو “متى سوف أحجز تذكرة الفيلم القادم؟” إنني أعرف مسبقًا أحداث الجزء الثاني، لكن أحداث الفيلم هي أصغر أطباق المأدبة السمعية والبصرية التي يصنعها ﭬيلينوف مع طاقمه السينمائي الطموح. إنه مخرج شخصي للغاية، وأعني بذلك أنه يسلط الضوء على أكثر الأمور شخصية وحميمية في وسط فوضى كواكب فرانك هربرت.
بينما قد يبدأ مخرج آخر هذا النوع من الأفلام معركة ملحمية لأبطاله تشد انتباه المشاهدين، يبدأ فيلم “كثيب” في جزئه الأول بأبطاله مختبئين خلف تل رملي منصتين لكشافي العدو. هذا الإنصات يؤكد أهمية عامل الصوت الذي تم تقديمه في الفيلم الأول. في كوكب هو عبارة عن صحراء قاحلة، تُشكل أرق الأصوات وأعذبها خطرًا محدقًا لأنها قد تكشف مكانك للعدو أو لما هو أسوأ.
أحيي في ﭬيلينوف قدرته على تخطي الشروحات السردية واستبدالها بتوضيحات بصرية، فكما ذكرت أن الرواية الأصلية مليئة بتفاصيل تشرح طريقة عمل الكوكب وكيف ينجو سكانه من قسوة ظروفه المناخية، وبدلًا من أن نمضي وقتًا مع شخصية تشرح لنا وأبطال الفيلم كيفية عمل الأمور، نشاهد ذلك بأم أعيننا. لا نحتاج لكي يشرح لنا أحد ما طريقة عمل البذل التي تستخلص مياه الجسد، لكننا نشاهد عملية الاستخلاص بكل تفاصيلها في إنجاز تقني بديع.
تم إغراق نوع الخيال العلمي بالعديد من الأفلام التي تفرط في شرح أساليبها وتقنياتها بدون إظهار ذلك، أو أن تقوم بأسوأ من ذلك، وهو الاتكاء على الخيال وتجاهل الطرف العلمي تمامًا. بالتالي، حينما يبذل صناع الفيلم وقتًا وجهدًا في تطوير تقنيات تغطي كافة التفاصيل، أجد في ذلك احترامًا ليس للمادة الأدبية فحسب، بل احترامًا لنا مشاهدين. هذه التقنيات امتدت من منظور حديث يتجسد في طريقة هبوط الأفراد أو ارتقائها إلى أماكن عالية، إلى طريقة تنفس سكان كوكب أراكيس تحت كثبان الرمال حينما ينصبون كمينًا.
أمر آخر يدركه ﭬيلينوف، هو أهمية إظهار التباين بين أحجام أجسادنا كبشر وبين أحجام السفن الفضائية والديدان التي تقطن أراكيس. في كل مرة نقضي وقتًا مطولًا في مساحة ضيقة مع الشخصيات تشعرنا بصغر هذا العالم وحدة الاختلافات بينها، تأتي لقطة سماوية تظهر صغر حجم هذه الشخصيات مقارنةً بالقوة المخيفة التي يتصارعون لأجلها. في أحيان أخرى، نشاهد وقوف شخصيات أمام جموع غفيرة تهتف باسمها ولأجلها، في صورة مهيبة لانقياد أيديولوجي أعمى ومخيف.
يعود المصور السينمائي «غريغ فريزر» للتعاون مع ﭬيلينوف بعد نجاح تعاونهما في الفيلم الأول من السلسلة. أفضل ما يمكن أن أقوله عن جودة الصورة في «كثيب» Dune هو شعوري بأنني شاهدت عمل درامي تاريخي وليس خيال علمي، استخدام المؤثرات البصرية نادر وغير محسوس، المعارك الفضائية لا يبدو أنها من خارج عالمنا الواقعي على الإطلاق، والجوانب الأخرى مليئة بالمؤثرات العملية التي تعزز من الانغمار في عالم هذا الفيلم القاسي والبديع.
لكن يجب أن أؤكد أنه بقدر أهمية الصورة التي قدمها هذا الفيلم، فهو يقدم تجربة سمعية استثنائية. ولا أتكلم فحسب من منظور الإبهار السمعي في مشاهد القتال والمعارك، وهو جانب مبهر جدًا، بل من منظور أهمية تكامل الصوت والصورة في تقديم عمل متكامل ومحكم الصنع. حينما نشاهد قتالًا دمويًا في كولوسيوم مليء بالجمهور، صوت الجمهور المهيب يعكس تعطشهم الصارخ للدماء وطبيعتهم القاسية. وحينما يهلوس «بول أتريديس»، يتم إغراقنا بكم هائل من المتحدثين بأصوات ضئيلة لإيصال الشعور بالضياع الكامن الذي يعاني منه البطل. بطبيعة الحال، لا يمكن امتداح الجانب السمعي من هذا الفيلم بدون ذكر اسم الموسيقار التاريخي «هانز زيمر» الذي ألف مقطوعات تعزف بكل سلاسة في خلفية المشاهد بدون أن تطغى عليها أو تختفي بدون أثر محسوس.
الأداءات التمثيلية إجمالًا ممتازة، هناك تركيز على تطرف هذه الشخصيات ورغباتها الحادة، تيموثي شالاميه يستمر بتجسيد بول أتريديس بكل تقلباته وتحولاته بشكل رائع. خافيير بارديم كان متنفسًا كوميديًا في وسط هذا العالم القاسي والمظلم بدون أن يساوم على نبرة الجدية في الفيلم. أما أوستن بتلر فقد اعتنق الشر الخالص والاعتلال النفسي المخيف لشخصيته بشكل كامل.
يعرض «Dune: Part Two» حاليًا في صالات السينما، ولا يمكنني سوى القول بأن عمل كهذا يجب مشاهدته على الشاشة الكبيرة، قد لا أزال تحت تأثير التجربة الإيجابية البحتة لحضور هذا الفيلم، لكنه اقتباس وفيّ إلى حد كبير للمادة الأدبية الأصلية، بذل صناعه كل ما في جعبتهم لتحويل السلسلة الأدبية المحبوبة إلى تجربة سينمائية خالصة. يبعث هذا الفيلم على الشعور بأن كل صوت وكل كادر وكل مشهد، جميعها تعمل سويةً على صنع منتج نهائي فريد. إنه نوع من اللُّحمة السينمائية التي لا نشاهدها إلا نادرًا.
اقرأ أيضا: «الذاكرة الأبدية» للحب والحياة والوطن