مساء السبت، 6 يوليو/تموز، اختتم مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي فعاليات دورته الـ58 التي انطلقت يوم 28 يونيو الماضي بفيلم «الموتى لا يُؤذون»، بطولة وإخراج النجم الدانماركي فيجو مورتنسن، المُكرم هذا العام خلال الافتتاح بجائزة ”رئيس المهرجان الشرفية“. اتسَمَ حفل الختام بالإيجاز والاحترافية، إذ بعد فقرة استعراضية قصيرة، أعقبها منح جائزة «رئيس المهرجان الشرفية» للمُمثل البريطاني كلايف أوين، وللمُمثل إيفان ترويان لدوره البارز في صناعة السينما التشيكية، جرى الإعلان عن وتوزيع جوائز المُسابقتين الرئيسيتين «الكُرة البلورية» و«بروكسيما».
الكُرة البلورية
فاز بالجائزة الكُبرى، «الكُرة البلورية»، ومبلغ 25 ألف دولار أميركي، الوثائقي «لمحة مُفاجئة لأشياء أعمق» للبريطاني مارك كازينز –59 عامًا-. وهو أحد أهم المُخرجين الوثائقيين المُتخصصين في تاريخ السينما والأفلام، وفي رصيده أكثر من فيلم لافت يستحق المُشاهدة فعلا. جائزة، ربما جاءت تتويجًا لجهود كازينز وإخلاصه في مجال الوثائقي. في جديده، وهو الوثائقي الوحيد بالمُسابقة، ينتقل مارك كازينز إلى عالم الفن التشكيلي. ليُسلط الضوء على حياة وأعمال التشكيلية البريطانية فيلهلمينا بارنز جراهام، وهي من رواد مجموعة «سانت إيفز» الفنية الحداثية، ويرصد لنا الرحلة المحورية التي غيَّرَت حياتها ونظرتها للفن والعالم. وعلى امتداد الفيلم، نُعاين العديد من اللوحات الخاصة بها، والصور الفوتوغرافية، والخطابات، والمُذكرات، مصحوبة بالتعليق الصوتي.
ورغم الكثير من الجماليات المُدهشة، والمعلومات الثرية، والعمق الفني، واشتغال المخرج وجهده الملحوظ، إلا أن الفيلم لم يكن يستحق «الجائزة الكبرى». على الأقل، مُقارنة بأفلام أخرى في نفس المُسابقة كانت تستحقها فعلا، لأسباب عديدة. مع ذلك، فقد فاز البعض بجوائز عادلة مثل، «محبوب» للنرويجية ليليا إنجولفسدوتير الحاصل على جائزة «لجنة التحكيم الخاصة»، و١٥ ألف دولار أميركي. وكذلك، جائزة «الفيبريسي»، أو الاتحاد الدولي لكتاب ونقاد السينما، وأيضًا، جائزة «أحسن مُمثلة» لبطلته، لهيلجا جيورين، عن الأداء الرائع لشخصية ماريا، المرأة الأربعينية التي تصبح أمًا لأربعة أطفال، وتصير مُمزقة بينهم وبين عملها الذي تفقده، وكذلك زوجها وحبيبها. وهو دراما اجتماعية ونفسية غاية في الأهمية والقوة والعمق. الأمر نفسه ينطبق على فيلم «ثقب» للسنغافورية نيليشيا لو، الفائزة بجائزة «أحسن إخراج». والفيلم، أيضًا، دراما اجتماعية نفسية، بالغة التأثير والعمق، ويُمكن اعتبارها الوجه الآخر لفيلم «محبوب».
جوائز مستحقة
أما جائزة «أحسن مُمثل» فذهبت مُناصفة إلى بطلي الفيلم الهولندي «ثلاثة أيام من السمك» لبيتر هوجيندورن. المُمثل تون كاس في دور «تون»، والمُمثل جويدو بوليمانز في دور «ديك». ونال جائزة «لجنة التحكيم الخاصة» مُناصفة التشيكي «آدم مارتينيك» عن فيلمه «مذبحة خنازيرنا الجميلة»، وذلك مع فيلم «سوفتكس» للمُخرج نواز ديشي. ويُركز الفيلم على مُخيم «سوفتكس» اليوناني للاجئين، حيث ينتظر طالبو اللجوء السوريون والفلسطينيون بفارغ الصبر أخبارًا عن أوضاعهم كلاجئين.
في مُسابقة قسم «بروكسيما»، ذهبت «الجائزة الكبرى»، و15 ألف دولار أميركي، لفيلم «غريب» للصيني زينجفان يانج. وهو مُخرج وثائقي أصل، بصمته الوثائقية ملحوظة وطاغية جدًا على بناء وتصوير وسرد أحداث الفيلم، إن جاز وصفها بالأحداث. إذ أن الفيلم عبارة عن مجموعة مشاهد مُنفصلة، يجمع بينها وحدة الموضوع، وإن كان كل مشهد بمُفرده عبارة عن لقطة واحدة، دون مُونتاج. إلا أنها في النهاية تصور حيوات وهواجس ومخاوف أفراد يجمع بينهم السخيف والمُضحك والمُؤثر والغامض والمُحزن.
كما حصل الوثائقي البيروفي «لقد حان الليل» لباولو زيزون على جائزة «لجنة التحكيم الخاصة»، و10 آلاف دولار أميركي، وكذلك على جائزة «الفيبريسي». الفيلم هو الوثائقي الأول للمُخرج، ويرصد فيه التدريبات العسكرية القتالية الشرسة لمجموعة من المُغامرين العسكريين الشباب، لتحويلهم إلى مُحاربين يعملون في مناطق عالية المخاطر، ومعروفة بانتشار العصابات المُسلحة، العاملة في تجارة وتهريب المُخدرات، وغيرها. الغريب أن الفيلم، رغم بعض المشاهد الليلة الرائعة التصوير، لكنه لم أفضل أفلام القسم أبدًا.
من أسرار نجاح المهرجان
سيظل نجاح «كارلوفي فاري» من بين الأمور المُبَرهِنَة على أن عالمية أي مهرجان ليست مُتوقفة أبدًا على حضور النجوم والنجمات، وجلب أشهر وأحدث الأفلام، وشركات الإنتاج العملاقة، وأضخم الرعاة، وغيرها من الأمور المُهمة والضرورية طبعًا لأي مهرجان، بقدر ضرورة فهم واستيعاب أن النجاح يتوقف بالأساس على طبيعة إدراك القائمين لماهية كلمة، «مهرجان». وضرورة أن ينبع ويلتصق ويُخلص المهرجان لبيئته ومنطقته وطبيعته الخاصة، ويبني شخصيته ويُراكم حضوره ويُرسخ هويته المُتفردة، دون الانجرار الأعمى واللهاث وراء كل مُبتدع، مهما كان. إذ يُدرك القائمون على المهرجان جيدًا، ومنذ سنوات بعيدة تمتد لعشر سنوات من حضوري وتغطيتي لفعالياته، أن فرادة المهرجان وتميزه ينبعان من منطقه الخاص المرتبط ببقعته الجغرافية، وطبيعة أفلامه، والمنطق الداخلي له وقوانينه، وتصور فعالياته، والحضور المُستهدف، وغيرها الكثير، وليس انتهاءً بتصميم مُلصقه السنوي الذي لا يُشبه غيره أبدًا، فكرة وتصميمًا وتنفيذًا وجرأة.
في الوقت نفسه، ليس معنى هذا انعزال المهرجان عن العالم وانغلاقه وتقوقعه داخل حدوده الجغرافية ولغته وأهله، بالعكس. خلال السنوات القليلة الماضية حَدَثَ الكثير من التطوير والانفتاح، سواء على مُستوى البرمجة، من دمج أو إلغاء لمُسابقات واستبدالها بأخرى أحدث وأكثر عصرية، أو من حيث مُحاولته، العام تلو الآخر، الانفتاح على السينمات المُختلفة حول العالم. بدأ الأمر قبل 5 سنوات بالتركيز على منطقة الشرق الأوسط، والعالم العربي تحديدًا، وانتقل إلى إيران وغيرها، وهذا العام تحضر آسيا وبقوة، مُمثلة في الهند والصين واليابان وسنغافورة. أمور بسيطة كهذه تُدلل، في النهاية، على أن الأمر ليس تفخيمًا من شأن مهرجان أو مُحابة للقائمين عليه، بل مُجرد ذكر لوقائع يتفرد بها مهرجان فعلا، تجعله لا يُشبه غيره أبدًا. هذا التميز، دون شك، ليس وليد الصدفة أبدًا. يكفي، مثلا، إلقاء نظرة سريعة على مبيعات تذاكر المهرجان، المُتصاعدة سنويًا، لمُلاحظة أن الحضور الجماهيري في تلك المدينة الصغيرة، من حيث الحجم والسكان، والبعيدة عن العاصمة، يكاد يقترب من مبيعات مهرجان ضخم يُعقد في عاصمة بحجم وتنوُّع ومكانة برلين.
بالطبع، مبيعات التذاكر واستهداف زيادتها السنوية ليست الأساس ولا المقياس للنجاح، لكن يكفي أنها اقتربت من 150 ألفًا، أخذًا في الاعتبار صِغَر المدينة، وقِلة القاعات وطاقتها الاستيعابية، وعدم وجود مُجمعات سينمائية أو أشياء من هذا القبيل. الأكثر إثارة للدهشة أن أغلب أفلام المهرجان ليست أفلامًا تشيكية. مثلا، في المُسابقتين الرئيسيتين وبرنامج العروض الخاصة، لم يُعرض أكثر من 5 أفلام تشيكية حديثة. والأغرب، أن بقية الأفلام ليست لنجوم ونجمات ومُخرجين ومُخرجات من الكبار الذين يجتذبون الجمهور لأفلامهم، والمُعجبين والمُعجبات لبريق شهرتهم، وإطلالتهم على السجادة الحمراء. إذ أن الكثير جدًا من الأفلام المعروض في مختلف الأقسام والفعاليات، باستثناء قسم «آفاق» المُهتم بأهم الأفلام العالمية المعروضة والفائزة في المهرجانات الدولية، هي الأعمال الأولى أو الثانية، وما من مُخضرمين تقريبًا. الأمر في النهاية بات يصب في صالح المهرجان، إذ بات الجمهور مُعتادًا على الحضور لاستكشاف الأفلام والأسماء الجديدة، والاستفادة من الندوات واللقاءات الصحفية، والورش، ولقاء النجوم والنجمات بالطبع، وبالأساس الاستمتاع بالأجواء السنوية للمهرجان، ومنها مثلا، شراء الهدايا المُتنوعة المُزينة بشعار المهرجان والتي ينفد الكثير منها منذ اليوم الأول، وهي ظاهرة لافتة بدورها.
معرض نجوم
أُسوة بمعرض الصور الفوتوغرافية المُقام قبل سنوات على هامش مهرجان «فينيسيا»، وأيضًا، معرض المُلصقات المُقام هذا العام تزامنًا مع مهرجان «برلين»، أقام المهرجان معرضه الخاص للصور الفوتوغرافية المُلتقطة، على مدى عقود، للنجوم الذين حضروا إلى المهرجان، تحت عنوان «نجوم»، للمُصور الفوتوغرافي التشيكي تونو ستانو.
الصور المُختلفة الأحجام، لكبار النجوم والنجمات والمخرجين والمخرجات، يبلغ عددها 35 صورة شخصية، مُلتقطة كلها بالأبيض والأسود، رغم أن تاريخ الفكرة يرجع إلى عام 1997. أما أقدم صور المعرض فيرجع تاريخا إلى عام 2004، وهي للمُخرج البولندي رومان بولانسكي. حيث يجلس على حقيبة سفره، عاقدًا ساقيه، ويسحبه أحدهم في طريقه لمقر المهرجان. تُركز الصُور المُلتقطة على مهارة الاشتغال الفني، واللعب بالإضاءة، وجماليات الأبيض والأسود، مثل صور ويليام دافو. ثمة أخرى يغلب عليها الرسمية بعض الشيء. أما الأكثرية فيغلب عليها الطرافة أو مُشاكسة الشخصية للكاميرا. ورغم أن أغلب التكوينات مُتفق عليها بالتأكيد إلا أنها تبدو عفوية تمامًا، ونابعة وعاكسة لروح كل نجم.
شريط المهرجان
أيضًا، تُعتبر الأفلام أو الأشرطة القصيرة التي يحرص المهرجان على إنتاجها سنويًا، بالأبيض والأسود، من بين أبرز وأميز سمات المهرجان وأوجه تفرده. هذه الأشرطة التي لن يفهم ماهيتها وعلاقتها بالمهرجان إلا من يحضره يُفترض بها ألا تتجاوز 90 ثانية. وتُصوِّر عاملين وعاملات في السينما التشيكية والعالمية، يفوزون في دورات سابقة بجوائز أساسية وتكريمية. ترتكز الأفلام أساسًا على سُخرية بديعة من الجوائز، بأساليب مُختلفة ومُبتكرة، تُثير ضحكًا، وتكشف جمالا سينمائيًا في تكثيف درامي لنكتة ساخرة أو دعابة، رغم غرابة الأمر. فالفائز يبدو غالبًا غير مُهتم بالتمثال الكريستال الفائز به، وأحيانًا يضطر للتخلص منه أو التضحية به للنفاد من موقف أو أزمة طارئة.
بطل شريط المهرجان هذا العام الممثل الإسباني بينيسيو دل تورو، الحاصل على جائزة «رئيس المهرجان الشرفية» عام 2022، وفيه يُعبِّرُ دل تورو، بشكل درامي بملامح وجهه وحركة جسده وعمق نظرته، عن المُخبّأ في ذاته. يمشي حاملاً حقيبة، ويتساءل مُواربة عن جدوى كلّ ما يحصل معه، كأنّه يسخر من الاحتفال الاستعراضي والأضواء والجوائز والمهرجانات، قبل أنْ يُقرّر الجلوس في أحد أنفاق المُشاة الخاوية، ويفتح حقيبته، ويظهر التمثال، ما يُوحي باستعداد للتخلص منه، مُنهيًا المشهد بـ«طفح الكيل». وأكل حلوى «الأوبلاتكي» التشيكية التقليدية المعروفة، وكأنها أهم وأجدى من أي شيء. يُذكر أن بطل فيلم أو شريط المهرجان الترويجي العام الماضي كان النجم الأميركي المعروف جوني ديب، رغم أن ديب لم يفز بأي جائزة في المهرجان، وكان هذا من أطرف الأمور في الشريط.
استعادة كافكا
بالطبع يصعب في مقالة أو حتى عدة مقالات الإلمام بجنبات وفعاليات مهرجان بحجم وتنوع كارلوفي فاري امتدت لأكثر من أسبوع. يكفي، مثلا، صعوبة مُحاولة رصد برنامج قسم «الاستعادة»، ومُفاجآته السنوية اللافتة فعلا لأعلام أثروا فن السينما. وكان من بينها قبل أعوام قليلة أهم أفلام يوسف شاهين في أول عرض عالمي لها بعد إعادة ترميمها وترجمتها. هذا العام، الذي واكَبَ في شهر يونيو الماضي وفاة أهم أديب تشيكي وأوروبي وعالمي مُعاصر، فرانز كافكا، لم يمر بالطبع دون التفاتة من المهرجان الذي عَرَضَ في «الاستعادة» أكثر من 21 فيلمًا من أهم الأفلام العالمية التي استلهمت أعمال الأديب الفذ الراحل. أعمال أورسون ويلز، وفيدريكو فيلّيني، ومارتن سكورسيزي كانت من بين أفلام القسم الذي حَرَصَ المخرج الأميركي الكبير ستيفن سودربيرج على الحضور شخصيًا لتقديم فيلمين له مُستلهمين من أعمال كافكا، «كافكا» و«السيد كنيف».
اقرأ أيضا: خاص: أحمد باعقيل: «ناقة» و«شمس المعارف» الأقرب إلى قلبي