فاصلة

مراجعات

«قضية 137»… سينما تحاسب ولا تشيطن!

Reading Time: 3 minutes

لا يأتي «قضية 137» بكونه إضافة جديدة إلى أرشيف السينما السياسية الفرنسية. جديد المخرج الفرنسي دومينيك مول من الأعمال التي تعيد تعريف هذا النوع السينمائي من خلال مسح شامل لتناقضات السلطة، وشقوق العدالة، وحدود الأخلاق في دولة ديموقراطية تُجبر على مواجهة ذاتها. ما ينجزه هنا ليس مجرّد عمل درامي محكم، إنما تشريح سينمائي لنظام لا يرى نفسه إلا من زاوية القوة والردع، حتى حين يزعم أنه يحتكم إلى القانون.

العمل المعروض ضمن مسابقة مهرجان كانّ السينمائي في دورته الثامنة والسبعين (13 – 24 مايو)، يتمتّع بقوة سردية لافتة، معتمدًا على مجموعة أحداث مشابهة تعود إلى عام 2018، حين اجتاحت فرنسا حركة «السترات الصفر»، احتجاجًا على سياسات اقتصادية شكَّلت عبئًا ثقيلًا على الطبقتَيْن المتوسطة والفقيرة. في هذه الخلفية الملتهبة، يُصاب فتى من عائلة متواضعة برصاصة مطاطية أطلقها عنصر من الشرطة بلباس مدني، لتصبح هذه اللحظة التي يعود الفيلم إليها مرارًا، نقطة الانطلاق في حفر دراميّ يُدخلنا إلى قلب جهاز الدولة ومؤسّساتها.

«قضية 137».. سينما تحاسب ولا تشيطن!
Case 137 (2025)

الشخصية المحورية هي ستيفاني (تجسّدها ببراعة شديدة ليا دروكر)؛ محقّقة تعمل في المفتّشية العامة للشرطة الوطنية، وهي الهيئة المسؤولة عن مراقبة أداء رجال الأمن. من اللحظة الأولى، يرسم دومينيك مول شخصية معقّدة: امرأة تؤمن بمهنتها، تربطها علاقة عاطفية ومهنية بالشرطة، تنتمي إلى وسطها، لكنها تجد نفسها في مواجهة حالة تضع قناعاتها على المحك. هذه ليست قصّة عن بطلة تسعى إلى إسقاط النظام، بل عن موظّفة من داخله تحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه، وتحقيق العدالة في ظروف «معادية» لها، خصوصًا في ظلّ استحضار لحظات من الماضي القريب (هجمة «باتاكلان») حيث كان للشرطة دور في حماية البلاد من الاعتداءات الإرهابية.

ما يُثير الإعجاب في هذا العمل هو الطريقة التي يتجنّب فيها السقوط في فخّ الانحياز الأخلاقي الصارخ. فلا الشرطة تُصوَّر أداةَ قمع مجرّدة، ولا الضحية يُقدَّم رمزًا مقدّسًا. نجد أنفسنا حيال شخصيات؛ كلّ منها محكوم بسياقات اجتماعية ونفسية تُبرّر سلوكها من دون أن تُبرّئها. من خلال هذا التوازن الدقيق، يطرح مول أسئلة أخلاقية وفلسفية لا إجابات جاهزة لها: كيف يمكن إنصاف الضحية من دون شيطنة كلّ الجهاز الأمني؟ وهل هناك عدالة ممكنة في مؤسسات يُطلب منها أن تحاسب نفسها بنفسها؟ وأصلًا، وباختصار شديد، هل محاسبة كتلك ممكنة؟  

يشتغل السيناريو مثل آلة دقيقة التوقيت. كلّ مشهد يدفع القصّة خطوة إلى الأمام، لكن بلا استعجال. يتراكم التوتّر تدريجيًا، لا من خلال الأكشن أو المؤثّرات البصرية، بل عبر اللغة، التناقضات، النظرات، والقرارات المؤجّلة. السينما هنا تعود إلى وظيفتها السياسية أداةً للتفكير والتحليل.

«قضية 137».. سينما تحاسب ولا تشيطن!
Case 137 (2025)

مهمّة ستيفاني لا تتعلّق فقط بتجميع الأدلة وتحديد المسؤولية، بل تصبح تدريجيًا صراعًا مع الذات. فالمؤسسة التي تحميها وتمنحها هويتها تطلب منها أن تصمت وتنحاز إلى «مصلحة الدولة» على حساب الحقيقة. تتّهمها بالركون إلى عاطفتها. وهكذا، يتحوّل الصمت في الفيلم إلى شخصية قائمة في ذاته: صمت الزملاء، صمت الضحية، صمت المجتمع الذي يفضّل النسيان، وصمت النظام الذي لا يحتمل الشفافية.

المَشاهد مصوَّرة بإيقاع هادئ، بل تقشّفي أحيانًا، يعكس الجو العام للفيلم: لا حاجة للمبالغات أو الزخرفة البصرية، فالحقيقة نفسها مشوّقة بما يكفي. الموسيقى ليست طاغية، ممّا يفسح المجال للصمت والحوارات المكثّفة. أداء ليا دروكر يتجاوز البراعة التقنية إلى تلبُّس حقيقي بالشخصية. حضورها متوتّر، هشّ، لكنه ثابت في العمق. تقود الفيلم ببوصلة داخلية تعكس اضطراب البطلة وتردّدها، من دون أن تفقد تماسها مع المشاهد. نحن لا نرى فقط محقّقة تلاحق الحقيقة، بل امرأة تكتشف أن العدالة ليست مفهومًا قانونيًا مجرّدًا، بل تجربة شخصية مؤلمة.

في خلفية القصّة، يشتبك الفيلم مع أزمة ثقة عميقة بين المواطن والدولة. أزمة لم تنشأ فقط من العنف البوليسي، بل من شعور عام بأن مؤسسات الديموقراطية الغربية تفقد قدرتها على تمثيل الناس والإنصات لهم. الفيلم لا يقدّم حلولًا، لكنه يرسم خريطة للمأزق، ويضيء الزوايا المعتمة التي غالبًا ما تُهمل في النقاشات العامة.

تتجلّى عبقرية مول في تقديمه لعالم التحقيقات كمرآة للمجتمع الفرنسي بكلّ تناقضاته: الانقسام الطبقي، الشكّ المتزايد في مؤسسات الدولة، وتآكل الثقة بين المواطن والنظام. وبعيدًا من الصراخ أو الخطابية، ينسج الفيلم خيوطه بإيقاع رصين، يعكس عمق الأزمة التي يعيشها بلد يواجه أسئلة متزايدة حول معنى العدالة والمحاسبة.

ما يبقى بعد نهاية الفيلم ليس فقط صورة الضحية أو لقطات التحقيق، بل هذا السؤال: هل يمكن أن توجد عدالة حقيقية في منظومة مبنية على التواطؤ المؤسسي؟ وهل يمكن إصلاح النظام من داخله، أم أن التغيير الجذري يتطّلب كسر القواعد التي تحكمه؟ بهذه الأسئلة، والسجال الذي قد يفتحه عند عرضه لاحقاً، يضيف دومينيك مول إلى رصيد السينما الفرنسية عملاً جديراً بأن يُصنَّف بين الكلاسيكيات الحديثة.

اقرأ أيضا: «صراط».. السينما كما الحياة رحلة حسّية

شارك هذا المنشور

أضف تعليق