فاصلة

مراجعات

«قتلة زهرة القمر» تحيّة للسكان الأصليين

Reading Time: 3 minutes
مارتن سكورسيزي: أميركا... أميركا

نظرة المخرج الأميركي مارتن سكوريزي (1942) السينمائية الى موطنه، هي نظرة عالم أنثروبولوجيا. هو يدرس بصرامة مجموعة بشرية ذات خصائص معينة، وفوق هذا يعيد بناء التاريخ بطريقة دقيقة للغاية، مقدماً شخصيات تتماهى مع المدن لسرد القصة المريرة عن الأصول الشاقة والقاسية التي تأسست عليها الولايات المتحدة الاميركية. لذلك، في جوهره، يُعتبر فيلم «قتلة زهرة القمر» (Killers of the Flower Moon – 2023) خلاصة كلّ ما صنعه سكوريزي حتى الآن: التأمل في السلطة والجشع، والخراب الأخلاقي للأشخاص الذين يستسلمون لهذا الاغراء، الفداء والندم وطبعاً الذنب، والدور الذي يلعبه كل ذلك في بناء الولايات المتحدة. بل إنّه يذهب أبعد من ذلك بقليل، من خلال الغوص في منظور الظلم، وإظهار الاحترام الهائل للضحايا الذين محاهم التاريخ، أو بالأحرى محا قصصهم.

يدور الفيلم حول رواية القصص، أو بشكل أكثر دقة، حول مَن يروي هذه القصص. حدثت القصة خلال عشرينيات القرن الماضي في فيرفاكس، منطقة تقع في شمال شرق أوكلاهوما، تملكها وتسكنها أمة الأوساج (قبيلة الغرب الأوسط الأميركية الاصلية) التي كانت تتمتع بأعلى دخل للفرد في ذلك الوقت، بسبب غزارة آبار النفط في أراضيهم وفق ما يقول سكورسيزي في بداية الفيلم. كانوا يرتدون الحلي، يتجولون في سيارات فخمة سائقوها من أصحاب البشرة البيضاء. أحد هؤلاء السائقين هو إرنست بوكهارت (ليوناردو دي كابريو)، الذي وصل إلى المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، مع آلاف العمّال الآخرين للانضمام إلى شركات النفط التي تغزو المكان. احدى هذه الشركات الكبيرة يملكها عمه ويليام هيل (روبرت دي نيرو). بناءً على اقتراح هيل، يتزوج إرنست من مولي (لي لي غلادستون)، سليلة إحدى العائلات العديدة المكونة من الشعوب الاصلية الثرية. في هذه المنطقة، هناك مذبحة مستمرة ومتزايدة، إبادة جماعية تحدث بسبب جشع الرجل الأبيض وسعيه لتجريد الأوساج من ممتلكاتهم بجميع الوسائل الممكنة، ولو بتصفيتهم واحداً تلو الآخر. «قتلة زهرة القمر» (مقتبس عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب الأميركي دايفيد غرين) هو فيلم عن رجال بيض يرتكبون جرائم بحق السكان الأصليين، وأكثر من ذلك هو فيلم عن أمة الأوساج، والعنصرية والقمع، والشر والولايات المتحدة الأميركية، وعن فن رواية القصص وحتى القليل عن سكورسيزي نفسه.

 

في المشهد الأخير من الفيلم، الذي ربما يكون من أكثر النهايات براعة في فيلم هوليوودي في السنوات الأخيرة، نفهم أخيراً من يروي هذه القصة، ولماذا تُسرد مرةً أخرى.

بين كل هذه الجرائم، تظهر في «قتلة زهرة القمر» قصة رومانسية، شكّلت أحداث الفيلم كله، قصة مولي وإرنست التي تبدأ كمهزلة، وتنتهي بمأساة. تم تقويضها وتلويثها بقوى داخلية وخارجية بسبب شخصية إرنست، الغبي، التابع الممتاز الذي ينفذ من دون سؤال. يتخلى سكورسيزي في جديده عن الحنين والسحر، ويتبنّى الكتابة الصريحة والمباشرة، وغير الموجزة، مصمماً على تسليح نفسه بالحجج في إدانته للهمجية التاريخية. ليس لدى سكورسيزي أي مشكلة في تصوير قتل امرأة أميركية أصليّة مرتين، أولاً من خلال شهادة شفهية، في سياق المحاكمة، ثم من خلال واحدة من تلك اللقطات الطويلة المرعبة.

يصبح السرد الذي يُبنى ببطء، مثيراً بسبب الجرائم التي تُرتكب بدم بارد

يصبح السرد الذي يُبنى ببطء، مثيراً بسبب الجرائم التي تُرتكب بدم بارد والديناميكيات المتغيرة باستمرار للشخصيات الرئيسية، التي تظهر وجوهاً مختلفة وتأخذ أدواراً مختلفة اعتماداً على اهتماماتها. وخلال ساعات الفيلم الثلاث والنصف، لا يبقي سكورسيزي الضوء فقط على بقعة مظلمة من التاريخ الأميركي، بل يعود إلى الشخصيات وأنواع الصراع في أفلام العصابات السابقة التي اشتهر بها مثل «غود فيلاس» (1990) و«كازينو» (1995) وغيرها، بينما يستذكر أفلام الويسترن الكلاسيكية ببيئتها وأيقوناتها. إن المزج الطموح بين الأنواع السينمائية، والكشف الشجاع والمسؤول للسياق التاريخي، واللحظات الفكاهية والمأساوية، تعزّز بعضها بعضاً بفضل إحساس سكورسيزي ومعرفته بأسلوبه وبالوسيط الذي يحبه.

«قتلة زهرة القمر» مرآة لا ترحم للأميركيين البيض، وتعويض للسكان الأصليين، ودراما ساحقة عن الظلم الكبير الذي يحدث إلى اليوم في هذا العالم. هذا التوجه الثلاثي يجعل العمل حافلاً بالأحداث، مثيراً للنقاشات، وفي الوقت نفسه لا يبدو كأنه وداع لسكورسيزي، بل هو صرخة من مبدع حكيم ومسؤول لا يزال في كامل قوته.

اقرأ أيضًا: «القاتل» ديفيد فنشر ينتظرنا في الظلمة

شارك هذا المنشور