فاصلة

مقالات

فيجو مورتنسن… بطل الجميع واللا-أحد

Reading Time: 4 minutes

في بعض الأحيان، يُحتجَز المشاهد في جسد/ روح ممثل أو ممثلة، يتحرّك وراءه مسلوب الإرادة، بحيث يقع تحت إيهام كل حركة وانحناءة، كل خفقان للجفن أو صفاء للعين، كل الصوتيات المنغمة والحوارات الدرامية وحركات الأصابع ولقطات الوجه القريبة، ويُصدّق بكُليّته أن ذلك الفرد لا يتجاوز كونه الشخصيّة المكتوبة والإطار المرسوم والنمط البصري المُقدّم. أن يقع المتفرج في الخديعة؛ يعني نجاح الممُثل في كسب الثقة الأوليّة للعيون، وعندها، لا ينكسر ميثاق الإيهام بين الممثل والمتفرج.

لكن هناك شيء استثنائي يحدث مع بعض الممثلين، أن ينمو أحدهم فوق الشخصية التمثيلية. لا يُلغي وجودها وامتدادها الذاتي تحت أي ظرف، وإنما، وبمعادلة ناعمة وشديدة الخصوصية؛ يُضيف إليها أبعاد داخلية وخارجية تُثري وجودها ويمنحها عيونًا شفافة وملامح مشربة بالنُبل.

تلك البُنى المادية والشكلانية ــ في عُرف مهنة التمثيل ــ تذوب داخل نضالات لمشاعر متفرقة، لتوحدها في أنماط مُجردة مهمّتها إنتاج المكوّن السحري للأداء، ذلك الفيض النوراني الذي يكتنف الممثل ويذوب داخله، لينسجم مع “البيرسونا” خاصته، ويفرض نفوذه وسطوته المتخيلة على المتفرج، بحيث تكون لكل نظرة وحركة معنى خاص بها يلمس أعمق نقطة ممكنة في نفس المتفرج.

بعض الممثلين يبلغون تلك النقطة ويتمكنون منها، وآخرون يكتفون بالاقتراب منها، وهناك نوع ثالث أكثر ندرة؛ يمسونها برفق، لا يضعون أقل أو أكثر من اللازم، بحيث لا يعلقون في منطقة يدفعون فيها الأداء مرغمين، أو يختفون تمامًا خلف صدمة التكوين الكلي للمشهد والحالة. هذه الهدوء النسبي يتشكل بمنهجية مثالية في صورة الممثل فيجو مورتنسن، الذي يصفه بعض النقاد أن اختلافه يقع في قدرته على التحرك داخل السردية وخارجها بسهولة تامة.

فيجو مورتنسن

تعرفت عليه للمرة الأولى في ثلاثية “سيد الخواتم”، تلك الثلاثية التي جعلت مني ما أنا عليه الآن، وأشعلت داخلي جذوة حب السينما. كان فيجو جُزءًا أساسيًّا من الثلاثية بعد أن انضم بدلًا عن الخيار الأول ستيوارت تاونسند، ليتحول بعدها إلى نجم شباك هائل. لكنه على عكس ما يفرضه وضع نجم الشباك، لم يكن مهتما كثيرًا بالإنتاجات التجارية الضخمة أو الأموال، ورفض عدة عروض ذات قيمة عالية على المستوى التجاري تتعلق بأفلام الأبطال الخارقين، واختار أن يبدأ شراكته طويلة المدى مع المخرج ديفيد كروننبرغ.

الحقيقة أن فيجو شخص انتقائي جدًا عندما يتعلق الأمر بالسينما، فالسيناريو بالنسبة له أهم من كل العناصر الأخرى، لذلك فهو لا يهتم بالميزانية أو الأجر بقدر ما يهتم للمشروع نفسه، وأن يقدم شيئًا ذا قيمة فنية أمام نفسه أولًا، أما حول توجهه للتمثيل، فقد صرح من قبل في مقابلة مع نيويورك تايمز عما جذبه لمهنة التمثيل: “لقد وجدت أيضا حاجة إلى تعريف الفضول المتزايد حول ماهية المهارة أو الحيلة التي جعلت من بعض العروض تدفعني للبكاء وأخرى تضحكني، وأخرى تدفعني في بعض الأحيان للتساؤل العميق عن مكاني في العالم”.

رُبما ما جعل فيجو ممثل ذا شخصية متفردة، أنه شخص عالمي، بلا هويّة حتمية، بل تشكل على يد أكثر من هوية ثقافية ولغة ومكان، فقد ولد في الولايات المتحدة لأب دنماركي وأم أمريكية، لينتقل بعدها ليعيش في إلى الأرجنتين بضع سنوات، ثم يسافر مع والدته إلى نيويورك بعد طلاقها من والده، إضافة إلى مكوثه بالدنمارك فترة في شبابه قبل أن يمتهن التمثيل، والحقيقة أن كثرة السفر والتعددية الثقافية أثرت على تكوينه بشكل واضح، على كل المستويات المعرفية، أجاد أربع لغات بطلاقة (الإنجليزية والإسبانية والدنماركية والفرنسية) إلى جانب معرفته الواسعة بلغات أخرى ولكن بدرجات أقل، لأن فترات مكوثه في الدول التي مر بها لم تكن فترات قصيرة، وإنما حياة كاملة. فمثلًا فيجو من الممثلين القلائل الذين لا يجدون مشكلة في التعري الكامل أمام الكاميرا، يمكن رد تلك النُقطة إلى الأخلاط الثقافية خصوصًا الاسكندنافية منها. 

فيجو مورتنسن

الجدير بالذكر أن فيجو لا يطمح لعيش حياة النجم الهوليوودي، رغم أنه كان قريبًا جدًا منها بعد النجاح الساحق لثلاثية سيد الخواتم، ربما لأنه حصل على الشهرة في سن كبير نسبيًا، الأربعينيات من عمره، ورُبما لأنه فنان متعدد المواهب، فكتابة الشعر والسيناريو والإخراج السينمائي إلى جانب التصوير الفوتوغرافي من اهتماماته الأولى. ورُبما لأنه يحب أن يتحرك بحرية، أن يكون مجهولًا ويتمتع ببعض الخصوصية. والحقيقة أن نمط حياته يُشبه بشدة منهجه التمثيلي، فهو الرجل الهادئ العصي على التصنيف، الذي يصعب أن يفلت انفعالًا في غير محله، محتجب تمامًا ــ وبإرادته ــ عن الأضواء، يتراجع قليلًا عن أن يكون صادمًا على الشاشة، يترك مساحة حقيقية بينه وبين المشاهد. سكونه يمنح الطرفين حرية أكبر ومساحة أكبر، يشغلها كلاهما (الممثل والمتفرج) بتخيلات ومشاعر وأفكار حول الموقف والتسلسل الدرامي والشخصية، يقول مورتنسن للنيويورك تايمز:

” كل شيء يبدأ بالسكون، بالصمت. الأفلام هي ضوء وزمن، قبل أن يبدأ الفيلم، يسود الظلام ولا يقع شيء. عندما يبدأ الفيلم يتحرك الزمن ونرى. وما لم يكن فيلمًا صامتًا، فإننا نسمع. منذ تلك اللحظة، يتعاطى كل شيء مع السكون الأوليّ، والظلام الأوليّ، ولا يوجد شيء غير مرئي تمامًا، غير ملحوظ تمامًا، غير متحرك تمامًا. إيمانك بأن تدع مجالا للتنفس والتحرك بانسجام مع التوتر الحاصل بين (لا شيء موجود) و(أي شيء يمكن أن يكون)؛ يسمح لك بالتواصل مع كل ما يمكنك تخيله…”.

لا يحاول فيجو أن يكون عميقًا، ولكنه في الحقيقة يتعاطى مع ذاته الفنية بهذه الطريقة، خصوصًا أنه في المرحلة الفنية الأخيرة من حياته، بعمر الـ65، يحاول فيجو أن يكون أكثر انتقائية، أكثر إخلاصًا، وأن يفعل ما يحب دائمًا، وهو لا يزال حتى الآن في ذروة عطائه الفنية، ولكنه يبقى مهمشًا على المستوى التجاري، وهو يحب ذلك، يحب أن يكون بطل الجميع واللا-أحد.

اقرأ أيضا: في سماء الفن السابع

شارك هذا المنشور