للمرة الثانية حجزت المخرجة التونسية كوثر بن هنية لنفسها مكانًا في المنافسة على جوائز الأوسكار الأمريكية المقدمة من أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة، وانتزعت ترشيحًا جديدًا في فئة أفضل فيلم وثائقي بفيلمها الحاصد للجوائز “بنات ألفة“، لتدخل التاريخ كأول مخرجة تونسية وعربية أيضًا تحصل على ترشيحين لجوائز الأوسكار، وكان الأول في 2021 عن فيلمها الروائي “الرجل الذي باع ظهره” ضمن فئة أفضل فيلم دولي.
تعتبر الترشيحات الرسمية للأوسكار هي المرحلة قبل النهائية في المنافسة على الجائزة المقرر إعلان نتائج دورتها الـ 96 في العاشر من مارس المقبل، بعد رصد نتائج تصويت أعضاء الأكاديمية البالغ عددهم أكثر من 10 آلاف فرد من الفاعلين في مجال صناعة السينما في الولايات المتحدة والعالم.
العالمية طريقها تونس
وضع الترشيح الأول للأوسكار كوثر بن هنية على خريطة السينما العالمية، فبدأت تتلقى عروضًا لإخراج أعمال في الولايات المتحدة الأمريكية، وحاولت منصة نيتفلكس اجتذابها لتقديم مشاريع ومسلسلات تليفزيونية من خلالها، إلا أن قصة الأم التونسية ألفة الحمروني وبناتها الأربعة التي ظلت تطاردها منذ بداية تصدرها لوسائل الإعلام في منتصف عام 2016، دفعت كوثر للعودة إلى وطنها الأم والغوص في المجتمع التونسي للتعرف على الأسباب التي قد تدفع فتيات في مقتبل العمر إلى أحضان تنظيم إرهابي غاشم مثل داعش.
قضية ألفة هي قضية عديد من الأسر التونسية التي لا زالت تبحث عن طريقة لاستعادة أبنائها وبناتها، وتطالب بنقل المتحفظ عليهم في سجون قوات الردع الليبية إلى سجون تونس، من دون أي رد فعل يذكر تجاه محاولاتهم من الحكومة التونسية. في وقت تشير أصابع الاتهام إلى تورط بعض المسؤولين التونسيين عن ملفات التسفير في مساعدة الشباب على الهرب إلى ليبيا. تقول كوثر “القضية لا تزال مفتوحة، فعلى الرغم من مرور كل هذه السنوات لم يتغير أي شيء، الكثير من لجان التحقيق ومؤسسات المجتمع المدني بحثت في الأمر وتناولت قضية ملفات التسفير، حتى أنها لا تزال مطروحة في برامج التلفزة ووسائل الإعلام، فهي ليست تابوه يمنع التحدث عنه، ولكن هذا لم يغير في الأمر شيئًا، خاصة أن الحالة السياسية في تونس حاليًا ليست في أفضل حال”.
السينما كوسيلة ضغط
تؤكد كوثر أن فيلم “بنات ألفة” حقق نجاحًا كبيرًا في صالات السينما التونسية، لأن الناس كانوا يدعون بعضهم البعض لمشاهدة الفيلم في محاولة لفهم جانب من الأحداث التي شهدتها البلاد خلال السنوات العشر الأخيرة، واصفة إياها بـ “أحداث زلزالية مستمرة منذ قيام ثورة الياسمين وحتى الآن”.
وتضيف لـ فاصلة “ننظر للثورة بطريقة عاطفية، ولكن لا بد أن نسأل ماذا يحدث بعد العاطفة، لذلك تشغلني عدة أشياء في صناعة الأفلام أهمها طرح التساؤلات ومحاولة فهم ما حدث، حتى الآن لازالت بنات ألفة، رحمة وغفران وغيرهن في سجون ليبيا ونحن نمارس ضغوطًا على الدولة التونسية بهذا الفيلم، ونطالب برجوعهن إلى تونس، والمفترض أن هناك لجنة تعمل لإعادة هؤلاء الشباب والفتيات، وخاصة الأمهات والأطفال الذين ولدوا هناك وليس لهم ذنب فيما يحدث. فابنة غفران تعيش معها في السجن منذ سنوات فهي لا تمتلك أية أوراق رسمية، ولا يمكن استعادتها إلا إذا وافقت الدولة التونسية على استخراج اثبات شخصية وجواز سفر لها، الأمور معقدة جدًا على المستوى القانوني والسياسي، لكننا ندفع ونضغط على أمل إعادتهم إلى تونس”.
قصة الهروب
ألفة هي أم لأربع بنات، رحمة وغفران وتيسير وآية الشيخاوي، مع نهاية عام 2012 بدأ سلوك رحمة وغفران يتغير بعد أن التحقتا بخيمة دعوية مرخصة من قبل الدولة، كانت مقامة في الشارع الذي تسكن به ألفة في مدينة سوسة. وفي عام 2014 هربت غفران إلى ليبيا للانضمام لتنظيم داعش، ولحقت بها رحمة بعد فترة على الرغم من إبلاغ ألفة السلطات التونسية بنية رحمة للهرب هي الأخرى.
تشير المخرجة كوثر بن هنية في حوارها مع فاصلة، إلى أنها التقت بألفة لأول مرة في عام 2016، عندما تفجرت القضية في وسائل الإعلام بعد أن ألقت قوات الردع الليبية القبض على رحمة وغفران في أعقاب الغارة الجوية التي شنتها القوات الأمريكية في صبراته الليبية للقضاء على تنظيم داعش، وبدأت العمل على فيلم وثائقي يتناول القضية ولكن سرعان ما اكتشفت أن كل ما قمت بتصويره ليس له معنى، لأن هذه القصة معقدة ومتشعبة ويتداخل فيها الماضي مع الحاضر، والحميمي مع السياسي والتاريخي.
اليأس ثم العودة
بدأت كوثر في طرح تساؤلات لم تجد لها إجابة في طريقة السرد التقليدية للفيلم الوثائقي، وما واللقاءات التي صورتها ألفة في البداية، ويئست من العثور على الإجابة المطلوبة لذلك قررت طرح هذا المشروع جانبًا، وبدأت العمل وقتها على فيلمها الروائي “الرجل الذي باع ظهره”، ثم عادت إلى قصة ألفة مرة أخرى بعد سنوات لفهم القضية والعثور على إجابة لتساؤلات كثيرة عن أسباب هروب الفتيات، بعيدًا عن الإجابات السطحية من نوعية أنه الغباء أو الجهل أو الفقر.
تقول كوثر إن أفضل الإجابات نجدها عند أصحاب القصة أنفسهم، وبما أن جزء من القصة يدور في الماضي كان لا بد من استخدام مشاهد تمثيلية لإعادة تجسيد الماضي، مشيرة إلى أنها تعتبر إعادة التصوير “كليشيه”، لذلك قررت استخدامها هذا لصالحها بحيث لا تكتفي بالمزج بين الوثائقي والروائي؛ وإنما تدفع بالممثلين لطرح التساؤلات على الشخصيات الحقيقية حتى نتعرف عليهم بشكل أفضل، وإحداث نوع من المواجهة بينهم.
حطمت كوثر في الفيلم الجدار الرابع الوهمي الذي يفصل الجمهور عن الممثلين وشخصيات الفيلم، ومن هنا كان وجود هند صبري مهما، وتشير بن هنية إلى أن هند كانت الشخصية الأفضل لمواجهة الأم حيث أن طبيعتيهما مختلفتين، فألفة شخصية حامية وعندها جانب تراجيدي درامي كبير، تبكي وتضحك، أما هند صبري فهي إنسانة تضع مسافة بينها وبين الأشياء وعندها صبر، لذا شعرت المخرجة أنهما تكملان بعضهما البعض، وساعد هذا على فهم شخصية الأم بشكل أفضل.
وصم الأنوثة
ترى بن هنية أن “وصم الأنوثة” هو السبب الخفي وراء هذه القضية المعقدة، فالبنات الصغار بداية من سن 12 أو 13 سنة يشعرن أن هناك حربًا على أجسادهن الصغيرة، وخاصة في هذه القصة، مضيفة “الشيء الذي مسني في هذه القصة، هو أن البنات شعرن أنهن موصومات بالأنوثة من دون أن يفعلن أي شيء، وكن بحاجة للدفاع عن أنفسهن، (أنا لست مومس) كما تقول إحداهن، حتى الأب نفسه يصمهن بهذا الوصم منذ الصغر، مع الأسف حالة الوصم هذه ضد النساء موجودة بعنف شديد في مجتمعاتنا، وعلى المرأة أن تثبت باستمرار أنها فاضلة وشريفة، وهروب الفتيات إلى هذا التنظيم الإرهابي كان بهدف أن يثبتن للجميع أنهم قديسات وفوق أية شبهات، حالة الإثبات أصبحت حالة مرضية دفعتهن إلى هذا المكان السئ”.
“بنات ألفة” حظي بعرضه العالمي الأول في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي، وفاز بعدة جوائز كان أحدثها جائزة “الشرق” لأفضل فيلم وثائقي عُرض في قسم “روائع عربية” بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، وجائزة أحسن فيلم عالمي من الاتحاد الدولي للنقاد FIPRESCI في مهرجان بالم سبرينغز السينمائي الدولي.
اقرأ أيضا: بنات ألفة.. أن تدع القصة تقودك نحو الحكي