فاصلة

مقالات

«سهر الليالي» حين تصبح الحياة حفلة توديع بلا ضيوف

Reading Time: 5 minutes

في فيلمه الطويل الأول والذي وضع اسمه في مصاف أهم مخرجي جيله في مصر، قدم لنا المخرج هاني خليفة في «سهر الليالي» 2003، خليفة طبقًا مصريًا دسمًا محشوًا بالخيبات العاطفية والعلاقات المهترئة، ومحاولات بائسة لترقيع قماش ممزق اسمه الزواج. 

لا يحاول العمل أن يتجمل أو يختبئ خلف رومانسية زائفة، بل ينظر في عين الحياة، ويقف شاهدًا على إنهاك العلاقات واهترائها ومحاولاتها اليائسة في مقاومة السقوط الحر الذي لا مفر منه. 

القصة بسيطة كجلسة مصارحة متأخرة بعد منتصف الليل: أربع أزواج من الأصدقاء، تتكشف مشاكلهم الشخصية والمشتركة خلال السهرات التي تجمع بينهم. 

سهر الليالي (2003)
سهر الليالي (2003)

 يقف كل منهم عاريًا من الأكاذيب الصغيرة التي كانت تحمي علاقاته: الحب، الخيانة، الملل، الرغبات المكبوتة، البحث المستميت عن الذات داخل قفص الحياة المشتركة… كلها تسبح أمامنا دون فلاتر.

الفيلم ببنائه الحواري المعتمد على تدفق المشاعر أكثر من العقد الدرامية الكبرى، يذكرنا بمدرسة الواقعية الاجتماعية في السينما، لكنه يضيف إليها شيئًا مصريًا خالصًا: نكهة الخيبة المغلفة بروح الفكاهة السوداء. كأن الشخصيات تقول لنا: نحن ندرك مآسينا، لكن لا بأس، دعونا نضحك قليلًا قبل أن نبكي كثيرًا.

ما يميز «سهر الليالي» هو أن كل الشخصيات تقريبًا تبدو وكأنها في منتصف الطريق، لا هم تعساء بما يكفي للرحيل، ولا سعداء بما يكفي للبقاء. هذه الحالة الرمادية الباهتة التي لا يملك معظمنا شجاعة الاعتراف بها في حياته الواقعية، تتجسد هنا ببساطة مذهلة.

أما المجتمع الذي يعكسه الفيلم، فهو مجتمع يتأرجح بين الحنين لصور الحب القديمة، والتخبط في استيعاب مفاهيم الحرية الفردية الحديثة. الكل يتكلم عن الحب، لكن لا أحد مستعد لدفع ثمنه الحقيقي، والكل يبحث عن الأمان، رغم أن الجميع يخاف الالتزام. وكأن «سهر الليالي» يرسم لنا لوحة لواقع معلق بين جيلين: جيل تعلم الصبر حد الغرق، وجيل يتعلم الهروب حتى قبل أن يبلل قدميه.

الإيقاع البطيء للفيلم الذي قد يراه البعض مملاً لم يَسِم الفيلم عبثًا؛ بل أتى متعمدًا جدًا، لأنه يضعك أنت كمشاهد أمام لحظات الصمت والانتظار وارتباك التفكير، تمامًا كما يعيشها أبطاله. هو فيلم لا يستعرض دراما بقدر ما يعريها، دون فلاشات ولا صراخات ولا محاكمات، فقط واقع فاتر ومربك يشبه كأس شاي بارد نسيه أحدهم على الطاولة.

باختصار، «سهر الليالي» ليس فيلمًا عن قصص حب عظيمة أو خيانات مدوية، بل عن التفاصيل الصغيرة التي تقتل العلاقات دون أن تصنع ضجيجًا، عن المواجع الخافتة التي لا تحتاج إلى موسيقى تصويرية حزينة كي نشعر بها… وعن «ليالٍ» نعرفها جميعًا، لكننا نفضل ألا نسهر على أطلالها.

سهر الليالي (2003)
سهر الليالي (2003)

لا يرفع المخرج هاني خليفة لافتات فكرية، ولا يتعامل مع كاميرته كمنبر سياسي أو اجتماعي مباشر، لكنه في ذات الوقت لا يترك مشهده عاريًا من التأويل. بل يفعل ما يبرع فيه الكبار: يزرع الإسقاطات بهدوء، ويتركها تختمر في عقل وروح المتفرج من دون أن يشرح أو يبرر.

القهوة الباردة، واللقطات الطويلة للصمت، ليسوا جميعهم مجرد حشو زمني؛ بل أدوات ذكية استخدمها المخرج لقول ما لا يُقال. كوب القهوة الذي يُترك على الطاولة دون أن يُشرب، هو علاقة وصلت إلى الفتور الكامل. والمشهد الذي تجلس فيه الشخصيات في صمت ثقيل، بعد مشادة أو خيبة، هو مشهد سياسي داخلي بامتياز: بلد بأكمله ينتظر شيئًا ما أن يتغير، دون أن يعرف كيف أو متى.

سهر الليالي (2003)
سهر الليالي (2003)

الجميل والموجع في آنٍ معًا أن كل الشخصيات تتكلم كثيرًا، لكنها لا تقول شيئًا حقيقيًا حتى تُضطر إلى قوله.

في بداية الفيلم، يبدو الحوار سطحيًا، خفيف الظل، مليئًا بالنكات والمجاملات، تمامًا كما نفعل في الحياة الواقعية حين نحاول إخفاء العفن المتسلل تحت أرضية العلاقة. لكن شيئًا فشيئًا، يتآكل هذا السطح، ويبدأ الكلام الحقيقي في التسرب، متوترًا، مرتبكًا، ومشحونًا بأكثر مما يُقال.

أبرز ما يميز حوارات الفيلم أنها أقرب إلى حروب صغيرة متنكرة في شكل نقاشات. كل شخصية تضع جملة، ليس لتُفهم، بل لتُجرّ الطرف الآخر للاعتراف، أو على الأقل للانكشاف. كل «ليه ما بتردش عليّا؟» وكل «طب وانت؟» هي قذائف لفظية دقيقة، تُلقى بابتسامة، لكنها مغمّسة بالمرارة.

سهر الليالي (2003)
سهر الليالي (2003)

اللافت أن الحوار هنا لا ينقذ أحدًا. بل على العكس، هو يكشف هشاشة الجميع. لا أحد يخرج من مشهد حواري وهو أكثر فهمًا، بل غالبًا أكثر ضياعًا. وكأن الفيلم يخبرنا أن الكلام، حين يفقد صدقه، لا يُصلح شيئًا… بل يعمّق الشرخ.

هناك طابع دائري متعمّد في طريقة بناء الحوارات. كثير من المشاهد تبدأ بطرح سؤال أو ملاحظة، ثم تدور وتدور قبل أن تعود إلى نفس النقطة وكأن شيئًا لم يُقَل. وهذه ليست صدفة، بل اختيار جمالي ومضموني. المخرج وكاتب السيناريو يعيدان بذلك إنتاج تجربة كثيرين منا: جلسات المصارحة التي تبدأ بنية التفاهم، وتنتهي بإرهاق نفسي أشد من لحظة السكوت الأولى.

حتى الصمت بين الجُمل يلعب دورًا دراميًا شديد الذكاء. هناك توقفات متكررة، نظرات، ارتباكات لفظية، كلها تقول ما لا تجرؤ الشخصيات على النطق به. السكوت ليس ضعفًا هنا، بل تصريح ضمني بأن ما نشعر به لا يمكن اختزاله في كلمات مرتبة.

وأخيرًا، اللغة المستخدمة في الحوار لا تدّعي البلاغة، لكنها تختزن هشاشة نادرة. هي لغة قريبة من الشارع المصري المتعلم، بطبقته المتوسطة، تلك التي تقرأ قليلاً، وتحب أن تبدو عصرية، لكنها لا تزال ترتجف حين تواجه سؤالاً بسيطًا مثل: «انت لسه بتحبني؟».. الحوار في «سهر الليالي» ليس وسيلة للفهم أو الحل، بل مرآة متكسرة تُظهر الشروخ أكثر مما تعكس الوجوه. إنه مرآة للعلاقات في المجتمعات العربية التي تتكلم كثيرًا، لكنها تصمت حيث يجب أن تتكلم فعلًا.

لكن سحر «سهر الليالي» الحقيقي لا يكمن فقط في الحوارات، أو في شخصياته التي تشبهنا أكثر مما نود الاعتراف به، بل في الطريقة التي نُسجت بها تلك الشخصيات. هنا لا تجد «بطلًا» ولا «بطلة»، بل تجد بشرًا ينزفون بشريّتهم على الشاشة من دون أقنعة ولا شعارات. الكل مأزوم، والكل يدّعي القوة وهو ينهار في الداخل، والكل في لحظة ما يمد يده ليتمسك بشيء يعرف مسبقًا أنه سيفلت.

الشخصيات ليست مرسومة بخطوط واضحة، بل بخربشات إنسانية تشبهنا: رغبات مشوشة، نزق، غيرة لا مبرر لها، كبرياء هش، واحتياج خجول للحب.

 حتى خياناتهم لا تأتي بدافع الشر، بل بدافع الضياع. كأن كل واحد فيهم تائه في متاهة اسمها «العلاقة»، يسير فيه متخبطًا من دون خريطة أو بوصلة. والجميل أن الفيلم لا يعتذر عن هذا التناقض، بل يحتضنه؛ فـ «الطيبين» ليسوا دائمًا على حق، و«الخونة» ليسوا دائمًا أشرار، بل مجرد بشر يحاولون، ويفشلون، ثم يحاولون إخفاء فشلهم.

سهر الليالي (2003)
سهر الليالي (2003)

أما نظرة المخرج هاني خليفة، فهي تشبه عين طفل يتفرج على شجار والديه من فتحة باب؛ مزيج من الفضول والألم وعدم الفهم الكامل لما يحدث. لا يتدخل ليحكم، ولا يفرض رأيًا.  فقط يراقب ويلتقط التفاصيل، ويعرضها علينا بعدسة خالية من التجميل أو الافتعال. كل لقطة مسكونة بإحساس أن المخرج لا يسعى لإنقاذ الشخصيات، بل أن يتركها تواجه نفسها فنواجه أنفسنا معها.

الذكاء الإخراجي هنا لا يظهر في مؤثرات أو مشاهد ضخمة، بل في الفراغات: لحظات الصمت، النظرات المكسورة، فنجان قهوة يُترك دون أن يُشرب، جملة تتوقف في منتصفها لأن قائلها لم يجد شجاعة استكمالها. هذه اللمحات الصغيرة التي قد تبدو «غير سينمائية» للبعض، هي ما يجعل الفيلم سينمائيًا بامتياز. لكنها سينما تلمسك دون أن تصرخ في وجهك.

سهر الليالي (2003)
سهر الليالي (2003)

في النهاية، «سهر الليالي» لا يحكي فقط عن أربعة أزواج في القاهرة بداية الألفية؛ بل عننا جميعًا، حين نجلس آخر الليل نحدق في سقف الغرفة، نحسب خيباتنا كما يحسب الفلاح أيام الجفاف، ونخدع أنفسنا أننا سنصلح كل شيء غدًا، رغم أن الغد — كما في الفيلم — يأتي دائمًا ونحن أضعف مما كنا عليه البارحة. 

إنه فيلم يهمس لنا بحقيقة مرة: نحن لا نعيش المشكلات الكبيرة بقدر ما نتآكل تحت وطأة المشاكل الصغيرة التي تجاهلناها طويلًا.

«سهر الليالي» هو المرآة التي نخاف أن نطيل النظر فيها… لكنها تظل هناك، صامتة، قاسية، وصادقة أكثر مما نحب

اقرأ أيضا: «رجل وامرأة»… استعادة لبساطة ليلوش الآسرة

شارك هذا المنشور

أضف تعليق