فاصلة

مقالات

«ستموت في العشرين»… جماليات الانتقال من حبر القصة إلى ضوء الفيلم

Reading Time: 11 minutes

في ورقته البحثية المنشورة خلال مؤتمر الرواية العربية عام 2015 يقول السيناريست البحريني الراحل فريد رمضان “ومع دخولنا الألفية الجديدة، يصل الانحسار بين النص الروائي والخطاب السينمائي إلى درجات مثيرة للاهتمام، حيث القطيعة تصل إلى مستوى مثير للواقع السينمائي العربي وقيمة الفيلم العربي، وللمنتج الروائي العربي أيضًا” ضاربًا المثل بأن قائمة افضل مئة رواية عربية الصادرة في العم 2001، لم يُحوَّل من نصوصها العشرة الأولى إلى السينما إلا ثلاث روايات فقط، أشهرها ثلاثية نجيب محفوظ و”رجال في الشمس” للأديب المناضل الفلسطيني غسان كنفاني. 

ويخلص رمضان في ورقته – التي لم يتغير الحال منذ كتابتها حتى الآن- إلى الذروة الأكثر أهمية: السؤال الجوهري الذي ينبغي علينا أن نطرحه هنا: ما الذي حدث وأسس لقطيعة شبه كاملة بين الرواية العربية والخطاب السينمائي؟ على اعتبار أن الكتاب يشكل عماد المعرفة، وحالة ثقافية تنتج وعياً ثقافياً، ومصدراً رئيساً لها في إنتاج أدوات التثقيف وتنمية الوعي الفكري وخلق مجتمع مؤسس على المعرفة، ويعمل كمنتج للوعي والديمقراطية عبر تأصيل الوعي الديمقراطي وهو يدفع بالمجتمع نحو حالته المدنية المبتغاة، والذاهبة نحو أفق الحرية في معناها الإنساني الواسع.  فإن السينما، كونها خطابا ثقافيا تدفع هي الأخرى، بهذا الاتجاه وتسعى من خلال قوة الصورة عن ما يعجز عنه الكتاب في المجتمع العربي“.  

بين القصرين وقصر الشوق والسكرية

 في عام 2019، خلال حفل ختام فعاليات الدورة السادسة والسبعين لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي صعد المخرج السوداني الشاب أمجد أبو العلا ليتسلم جائزة أسد المستقبل عن فيلمه الروائي الطويل الأول، المأخوذ عن قصة قصيرة للأديب السوداني حمور زيادة تحمل عنوان “النوم عند قدمي الجبل”، والتي اقتبسها أمجد بالتعاون مع الكاتب يوسف ابراهيم وقدماها في فيلم من إنتاج سوداني مصري بعنوان “ستموت في العشرين”.

 كان من الممكن اعتبار هذا الفوز لحظة فارقة في تاريخ العلاقة بين الأدب والشاشة على مستوى صناعة السينما العربية وليس فقط السودانية في الربع قرن الأخير، بل وكان من الممكن تكريسه ايضا كرد على السؤال الجوهري الذي طرحه فريد رمضان في ورقته المشار إليها في بداية هذا المقال  على اعتبار أن التجربة أثبتت أن الاتكاء على الأدب يمكن أن يخلق ممرًا ابداعيًا متينًا ومتماسك الصفات، بين ما هو قصصي (بالمفهوم الأدبي) وما هو بصري (من الناحية السينمائية)، ولكن ما حدث هو أن التجربة لم تتكرر؛ لا على مستوى السينما السودانية ولا على مستوى السينما (العربية)، أما على المستوى (المصري) لم يكن هناك سوى استمرار لمد خط التعاون على استقامته بين الكاتب أحمد مراد والمخرج مروان حامد في ظل مساحة جماهيرية وإنتاجية آمنة، تتوافر لها عوامل النجاح التجاري، ولكن تتقلص بداخلها أي ملامح للمغامرة أو التجريب أو العمق، مع تواضع البناء وطاقات الحكاية، والتي نبحث عنها عادة في المعالجات الناضجة للنصوص الأدبية ذات القيمة اللامعة والموسومة بالرقي.

يمكن القول إن دلالة أسد المستقبل التي حصل عليها “ستموت في العشرين”، لم تتحقق على أرض السينما العربية – ولا المصرية-، وعلى ما يبدو أن التمثال الذهبي ويد المخرج الصربي الكبير “إيمير كوستوريتسا” التي امتدت لتسلم المخرج الشاب جائزته الرائعة، لم يحفزا تيار العودة إلى الأدب من أجل إعادة بناء الثقة ما بين الحبر والضوء.

 إذا كان المخاطب بصيغة التبشير أو التنبؤ هو “مزَّمِل” بطل الفيلم والقصة، فمن هو الضمير الناطق بعنوان الفيلم: “ستموت في العشرين”؟

إن ضمير المتكلم أو المتنبئ هنا ليس شخصًا بعينه؛ بل هو مجموع الكيانات التي يواجه مزمل صراعه الوجودي والحضاري والنفسي بل والجسدي ضدها! 

ففي مقابل التجريد النسبي لعنوان القصة الأًصلية “النوم عند قدمي الجبل” بما يحمله من لمسة شعرية؛ تأتي صيغة النبوءة الصلبة في عنوان الفيلم، بهيئتها اللغوية المتعالية وبنيتها اليقينية التي لا توحي سوى بأن ما تشير إليه حاصل وواقع لا محالة! وهو أن مزمل سوف يموت عندما يتم عشرين عامًا، لأن الدرويش الذي كان يذكر الله وقت أن كان يتم (تحنكيه) من قبل شيخ الطريقة التي تتبعها قرية والديه سقط من فوره، بينما كان يسبح الله، متوقفًا عند رقم عشرين، فصار وقوعه فألا لا سبيل لرده ونبوءة كامنة في بطن الغيب المؤكد.

ستموت في العشرين

العنوان إذن مستفز ومحفز، ليس فقط من باب الجذب نحو عتبة الحكاية بخاطرها فوق الواقعي، ولكن على مستوى الإحماء باتجاه ما وراء الحكاية نفسها، وإمعانا في لفت النظر والتطابق بين العنوان وبنية السرد؛ نجد أن الفيلم المكون من افتتاحية وثلاثة فصول، يتمم حكيه بعينيّ مزمل. وباستثناء الافتتاحية المكثفة ذات الدلالات الشعرية والمجتمعية الواضحة – جثة بقرة ضخمة يقف على رفاتها طائر جارح في لقطة واسعة يمر في خلفيتها موكب نظن في البداية أنه جنازة، بإيقاعه المتمهل، لكننا نكتشف أنه موكب احتفالي بميلاد طفل ذاهب لكي يتم مباركته و(تحنيكه) من قبل شيخ الطريقة المبروك.

هذه الافتتاحية فقط هي التي لا يمكن اعتبارها تروى من خلال عيني مزمل، الافتتاحية نفسها تشمل أيضًا قرار الأب بالهرب من النبوءة بالسفر للعمل في أي مكان أخر لن يكون عليه أن يواجه فيه موت ابنه المحقق، بينما عين مزمل هي ما يطل علينا مع بداية الفصل الأول من خلف سور البيت، متلصصًا على الأطفال الذين يوازونه في العمر، لكن أيهم لا يحمل على كتفيه نبوءة الموت في العشرين.

 ينتقل الراوي العليم في القصة المكتوبة ما بين الأشخاص والأماكن والأزمنة، حيث السرد غير خطي، يبدأ من نتائج النبوءة والإشارات المهينة التي تلاحق مزمل، وتعايره بموته المبكر من قبل سكان القرية والعابرين على حد سواء، ثم يعود في فلاش باك سريع إلى يوم ولادته وتحنيكه وانطلاق النبوءة، عملًا بمبدأ الالتفات؛ أي تقديم النتيجة على السبب لجذب الانتباه، بينما يقوم سيناريو الفيلم بتفعيل مزمل نفسه كراوٍ ومخاطب (ستموت أنت يا مزمل في العشرين) متخليًا عن القفزات الزمنية في القصة – محطات حياة مزمل القصيرة- ومراكمًا بشكل ناضج خطًا زمنيًا تراكميًا متصاعدًا لبناء علاقة وطيدة مع الشاب ومأزقه الوجودي الغريب.

ستموت في العشرين

 تعتمد قصة “النوم عند قدمي الجبل” على الثنائية المقدسة (الأب والابن) حيث نرى “النور” أبو مزمل هو الذي يحمله صغيرًا في موكب التحنيك، وهو الذي يتولى تربيته والحفاظ عليه، ثم تحريكه لكي يخدم في الجامع ويختم القرآن، بل يمكن الذهاب إلى أن الراوي في القصة يكاد في بعض المواضع أن يكون راوي لصيق بالأب، يتحرك معه ويرصد أفعاله وانفعالاته وفعاليته المحركة لمسار حياة مزمل من الطفولة إلى يوم بلوغ العشرين، أما في الفيلم فينتقل النفس الشعري والروحي إلى ثنائية مقدسة أخرى هي (الأم والابن) مريم والمسيح، حتى أننا نرى هذا صراحة في محاكاة لوحة بييتا الشهيرة في واحدة من أحلام مزمل أو ارتجافاته الروحية خوفًا من تحقق النبوءة.

ستموت في العشرين

 تأتي إزاحة الأب من واقع مزمل في السيناريو مرادفة لتأصيل شعور البطل بالوحدة وغياب السند والظل أو حائط الصد. وفي واحد من المشاهد؛ بينما لا يزال في مرحلة الطفولة، نراه يدخل على أمه شاكيًا باكيًا لائمًا مستجيرًا يصرخ: “داير أبوي!” أي أريد أبي، أبي البيولوجي والمعنوي والروحي، أبي الذي تخلى عني وسافر بحجة ستر البيت بالمال! بينما هو هارب رعديد أمام القوى التي لم يعتد أحد أن يأخذ ويرد عليها.

في حين أن بسط نفوذ الأم انفعاليا وشعوريا بالسيناريو صنع حالة من تعميق شعور المتفرج بالخوف والمعاناة والعذاب القاهر الذي ليس مثل قلب الأم قدرة على تكريس لوعته، وربط معظم حياة مزمل بأمه من خلال حبل سري خفي ومعلن في نفس الوقت، يجعل المتفرج في قلق وتوتر مستمر، ويسهل أن يتم تمريره عبر نظرات الأم وحسرتها المبكرة على وليدها المغادر.

ستموت في العشرين

 وبما أن السيناريو قرر أن تكون عينا مزمل هما صوت السرد الأساسي، فلا مانع إذن من أن نخطر في باله وعقله متأملين هواجسه ومخاوفه وتهويمات الرعب التي تلازم خط العمر الذي يدفعه الجميع للإيمان بأنه قصير، وبالتالي يضعنا الفيلم داخل رأس مزمل في توظيف جيد لما يمكن اعتباره مساحة وسط بين الكوابيس وأحلام اليقظة.

في الفيلم أربع لحظات تنتمي إلى لاوعي مزمل – منها ما أشرنا إليه بخصوص لوحة بييتا وأمه التي تحمله ميتا- لحظات الحلم هذه يستخدمها السيناريو للانتقال الزمني بين فصول ومراحل حكايته، كانتقاله من الطفولة إلى الشباب – قرب العشرين- الذي يأتي من خلال لحظة أثيرية، عندما يحبسه زملاء الكُتاب في صندوق الشيخ، مُكفنين إياه بالتراب والقماش، ساعتها نراه وهو يجلس خلف أمه كأنه يحتمي بها من إصرارهم على دفنه حيًا، ثم تتحرك الكاميرا مبتعدة قليلًا لنراه وهو شاب جالسًا أمام أمه متقدمًا على مخاوفها، أو في لقطة حبسه طفلًا خلف سور البيت خوفًا من أن يزوره الموت مبكرًا. ثم يأتي صوت أمه ليوقظه من الحلم/ اللحظة (مزمل قوم) أو افتح عينيك كما تقول آية الكتاب المقدس!

ستموت في العشرين

ويتكرر اللقاء ما بين مزمل الطفل ومزمل الشاب في النهاية، من خلال حلم أو هاجس يرى فيه مزمل نفسه طفلًا يضع رأسه على صدر نفسه وهو شاب، كي يتأكد – بطريقته المعتادة- أنه لا يزال حيًا، مستمعًا إلى نبض القلب، والنبض هو العنصر الصوتي والشعري الرائع الذي يستخدمه السيناريو مع مزمل من أجل أن يتأكد من أن الحياة تدب في جسد أمه أو أبيه. وأخيرًا في جسده هو نفسه – وهو في هذا يحاكي الجنين الذي يطمئن بصوت قلب أمه.

هذا الحلم الأخير ينتقل بالمزمل إلى أهم مرحلة في حياته، مرحلة التحرر من هاجس الموت، حين يستيقظ في اليوم التالي لبلوغه العشرين، حيًا، على فراش المرأة التي صنعت منه بأحضانها رجلا مكتملا، حيًا، ينبض، ويعرف أن الخروج من القرية هو طريقه نحو التخلص من سيطرة الخرافة والتردي الحضاري الذي يعيشه أهله.

  في اقتباسه للنص الروائي، يسمح السيناريو لنفسه بإضافة شخصيات لم تكن موجودة في النص الأصلي، وهو مبدأ أصيل ومستحق من مبادئ العلاقة ما بين الحبر والضوء؛ طالما ارتبط بصورة عضوية مع الفكرة الأساسية التي يطرحها الفيلم – حتى لو كانت غير مطابقة للفكرة الأصلية التي تبدو التجلي الأساسي للنص الأدبي، وهي بالمناسبة الإشكالية الأكثر حساسية في العلاقة ما بين الوسيطين، حيث يعمل النص الأدبي أحيانا عمل زناد الإلهام الذي يقدح شرارة مغايرة في عقل صانع السينما، شرارة تختلف عن الشرارة التي قدحها النص في أذهان وعقول القراء العاديين، ومن هنا يحدث التلاقح الفكري والروحي الذي يتجاوز التشابه الشكلي أو التعبير المباشر.

في صياغته السينمائية للقصة يضيف سيناريو الفيلم عدة شخصيات لم يكن لها حضور مادي ملموس، ربما هي موجودة ضمن الكورس الذي يردد بين الفقرات الشعارات الرخيصة التي تؤكد على صدق نبوءة الموت وقرب حلولها المستمر، والسينما كما هو الحال في الفنون البصرية هي فن التشخيص، أي صياغة الأفكار والنماذج، بل والشرور والهواجس في شكل شخصيات لها أبعاد واضحة وملموسة الحضور.

 يضيف السيناريو شخصية نعيمة حبيبة مزمل التي يلتقيها عند النيل، حيث تنمو مشاعرهما منذ الطفولة وتستمر بصورة أكثر نضجًا وتفتحًا في مقارنة جيدة ما بين جيل الأم وجيل الشباب، نعيمة هي النموذج المناقض لأم مزمل، وهي جزء من عملية التحفيز الشعورية والحضارية والنفسية التي تتراكم في داخله من أجل كسر قوقعة المكان، والخروج هربًا من عالم مغلق ومغرق في الخرافة والجهل. قصة الحب مع نعيمة تزيد الضغط على مزمل وجوديًا، تزكي صراع المقاومة الهشة ضد موت قادم، حيث ينتقل السيناريو من تحضير أهل مزمل للكفن والصندل وتفاصيل التكفين والجنازة إلى نعيمة التي تحفزه على أن يخطبها، بينما لا أحد يعتبر طلبها هذا منطقيًا أو واقعيًا، فكيف لها أن ترتبط بمن تبقى على موته أيامًا معدودات؟!

ينجح السيناريو في جعل النيل شخصية من شخصيات الفيلم، ليس فقط كعنصر مشترك في لقاءات نعيمة ومزمل، ولكن كمساحة سحرية تفصل ما بين عالمين، نرى مزمل كمن يحاول السير على الماء لكي يعبر هاجس الموت القادم، ثم نراه وهو يصارع النيل كأنما هو السبب في النبوءة أو متصورًا أن اجتياز النيل سوف ينجو به من مأزق العمر القصير.

هناك أيضا شخصية جاب الله، الطفل/الشاب المصاب بمتلازمة داون، والذي يرافق مزمل طوال الوقت، إلى الدرجة التي يبدو معها جزء من شخصية مزمل نفسه، وكأن السيناريو قرر أن يفصل الجزء البرئ، المتدفق بمشاعر دون وعي كاف في صورة هذا الجاب الله، أي يمكن اعتباره شخصنة جانب من شخصية مزمل! وليس شخصية منفصلة كاملة الأبعاد أو ضمن سياق مجتمع القرية بصورته الواقعية.

ستموت في العشرين

 يقودنا الحديث عن الشخصيات المضافة للسيناريو إلى شخصيات نفيسة وسليمان، نفيسة هي شخصية مضافة بالنص السينمائي، امرأة في أرذل العمر، تعيش لحظات خسوف تنتظر فيها الموت الذي لا يأتي ولا تعرف موعده، يرافقها حصان جميل، في ثنائية شعرية رقيقة، تقول أنها لو ماتت فلن يجد الحصان من يطعمه، وحين نراه في النهاية واقفًا بجانب جثة سليمان ندرك أن نفيسة ماتت، ونفيسة واحدة من شخصيتين سوف تعملان بشكل شعري على فداء مزمل. والشخصية الثانية بالطبع هي سليمان.

شخصية سليمان من أكثر الشخصيات القابلة لتطبيق مبدأ التعامل الحر مع شخصيات النص الأدبي، فالشخصية ليست مضافة كلية لأنها قادمة من عالم النص، هو موجود في القصة، وعلاقته بمزمل تكاد تتطابق في مستواها الروحي والنفسي مع علاقته به في الفيلم، إلا أن السيناريو يسمح لنفسه بتخريب الشخصية- بالمفهوم الجمالي- وإعادة بنائها بما يتناسب مع توجهه الفكري وانحيازاته الحضارية.

في القصة سليمان صديق النور والد مزمل، كان يعمل سائقًا إلى أن تقاعد، واضطر بسبب عجزه عن التواصل مع أهل القرية الذي توقف بهم الزمن عن العالم الخارجي إلى أن يقضي وقته في انتظار الموت، فهداه الله إلى الصلاة بديلًا عن هوايات الحديث عن السيارات والفنادق التي شاهدها على مدار رحلته الطويلة في الدنيا الواسعة. وهو متزوج ولديه خمسة أبناء ويقول عنه الشيخ عبدالقادر لمزمل (لا يحضر صلاة الصبح إلا أنا وعمك سليمان). 

ستموت في العشرين

طيب ماذا فعل النص السينمائي بالشخصية؟

تحول سليمان إلى ملك متقاعد، يجلس على عرشه/كرسيه الذي لا يفارقه، هو بقايا رجل متفتح من عصر النهضة الحضارية والثقافية التي راكمت عليها الجمهورية الإسلامية رمال الصحراء! مثقف، جوال، يعشق السينما ويرى أن الشاشة هي الحياة كما يجب أن تكون، وأن من يظهرون في الأفلام لا يموتون طالما ثمة امكانية لإعادة مشاهدة الفيلم مرات لا تحصى.

يصبح سليمان في الفيلم سكيرًا، بعيدًا كل البعد عن التدين الشكلي أو الشعبوي في القصة، يتمكن السيناريو من جعله يملأ فراغ الأب لدى مزمل، وسليمان نفسه في الفيلم هو الوجه المقابل للأب كما أن نعيمة هي الوجه الأخر للأم، كان سليمان والنور صديقين، وكلاهما سافر إلى الدنيا الواسعة، ولكن بينما عاد النور مهزومًا من أثر الخفوت الروحي والاكتفاء بالعمل من أجل المال في وظائف حقيرة، عاد سليمان محملًا بإرث حضاري، وغضب وجودي تجاه القرية التي لا تزال تخضع لأمزجة الدراويش وشهواتهم تجاه السيطرة على العقول والأجساد – في مشهد معبر يراود ابن شيخ الطريقة مزمل عن نفسه متحسسًا جسده في اشارة إلى رغبته الجنسية فيه، زاعما أن أفضل ما يفعله مزمل في انتظار الموت أن يعيش مع ابن الشيخ في صومعته لكي يرضى عنه “الله”.

سليمان هو وعي حر وجريء وفوضوي، يعيش مع عشيقة من أهل الهوى، تأتيه في محبة، وتخدم جسده ووجدانه الملتهب من أثر المرض الخفي الذي ينهش اعضاءه دون أن يصارح به أحدًا، وفي لحظة فارقة في علاقته بمزمل، يتنازل له عن كرسيه الأثير، نرى مزمل يجلس على الكرسي أمام الشاشة التي ينصبها سليمان ليشاهد مزمل هنُّومة (بطلة باب الحديد) -الجسد والفكرة-، وترهص اللقطة إلى أن سليمان يعد مزمل لخلافته في اكتشاف العالم، ويكرسه للخروج هربًا من الواقع السالب المترهل في قرية ميتة من وجهة نظر الزمن والحضارة.

 في النهاية يموت سليمان كالملك على عرشه، يحسبه مزمل حيا، لكنه حين يضع رأسه على صدره لا يسمع أصداء النبض ولا الحياة، فيدرك أنه فارق إلى الجهة الأخرى، ثم في نفس اللقطة نرى الحصان الخاص بنفيسة يقف عند النافذة فندرك أنها هي الأخرى قد فارقت ليتكمل ثنائي الفداء، وكأن رحيل نفيسة وسليمان هو فداء شعري لمزمل، أو تأكيد على أن الموت ليس بالعنصر الذي يجب أن يتدخل في صياغة الحياة، بل إن جهل الإنسان بموعد موته هو أكبر دليل على أن الحياة تستحق أن تعاش، وأن العقيدة الصحيحة لم تأت على ذكر الفأل ولا النبوءات بأن هذا سيعيش وهذا سيموت في العشرين.

 يقوم النص الأدبي على التلميح إلى صراعين أساسيين، الأول هو صراع بين الانعزال والجهل والخرافة، وبين الإيمان الحقيقي وقوة العقيدة ومتانتها الروحية التي لا تؤمن بالفأل ولا المجاذيب. والثاني هو الصراع بين الحياة ومشتملاتها الغريزية وموجوداتها المادية والأثيرية والتي يلعب فيها الجسد والعقل والوعي الأدوار الأساسية في الخوض والاستغراق والامتلاء بتلك الحياة، وذلك في مقابل عفة كاذبة أو تدين سطحي أو غياب إعمال العقل في معنى الخلافة في الأرض والقدر البشري واختبار الوجود الإنساني العميق.

في السيناريو يتوحد مستوى الصراع الأول مطابقًا لأصله في القصة. بينما على مستوى الصراع بين ضرورة الحياة وتقديس الموت؛ تأخذ المعكرة شكل المواجهة بين العزلة الحضارية والخروج المقيد للعالم والموت في بنيته الهشة، وبين الانفتاح أمام قوة الفن (السينما في حالة سليمان ومزمل) واستملاح الرحلة نحو البعيد، وغير المكتشف، والواسع.

عندما يتنازل سليمان عن كرسيه لمزمل أمام الشاشة فإنه يجعله منه خليفة له، لكي يرى الحياة من منظور مفتوح على عوالم أكبر باتساع غير قابل للقياس أو الحد، يموت سليمان على كرسيه كأنما على مقعد في السينما، لكن هذا الموت يتحول إلى حافز قوي لمزمل أن يغادر، لا عبر حفر قبره برضاه أسفل قدمي الجبل كما في نهاية القصة، بعد أن قهر نبؤه الموت عبر جسد العاهرة الذي فتك بكل هواجسه المرعبة، بل يأتي السيناريو ليحذف النهاية ويعيد تشكيلها بصورة أكثر تناسبًا مع المستوى الجديد للصراع: الخروج إلى العالم والجري وراء السيارة التي تمر على القرية دون أن تتوقف، فالسيناريو ليس معنيًا بفعل مزمل (في القصة) الذي ذهب للموت طواعية بعد أن ذاق لذة الحياة، بل هو معني بتكريس مبدأ الخروج من القرية الظالم أهلها لأنفسهم، بانغلاقهم الضيق وخضوعهم غير المشروط لعصا الدرويش وتسبيحات المجاذيب التي لم تتجاوز العشرين.

نرشح لك: «بسمة»… خلطة سعودية أمريكية شائهة

شارك هذا المنشور