في أوائل التسعينيات، قَبِل المخرج الهندي الأعظم ساتياجيت راي جائزة الأوسكار الفخرية عن إنجازاته مدى الحياة، ترددت كلماته بتواضع وفخر: “إنها اللحظة الأكثر فخرًا في حياتي” كان خطاب القبول الذي ألقاه راي وهو طريح الفراش في أيامه الأخيرة، بمثابة شهادة على صانع أفلام كان لأعماله صدى؛ ليس فقط داخل الهند، ولكن في جميع أنحاء العالم. كان هذه الجائزة تتويجًا لمسيرته المهنية التي امتدت لعقود أخرج خلالها مجموعة أعمال تميزت بأسلوب أقل ما يمكن القول عنه أنه أسلوب تأملي عميق.
بدأت هذه الرحلة في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، عندما برز راي على الساحة السينمائية الدولية بفيلمه الأول “أغنية الطريق” Pather Panchali. عُرض الفيلم في مهرجان كان السينمائي في عام 1956، وحظي بإشادة النقاد، وعرّف العالم على صوت راي الهندي المميز الذي سيصبح له صدى عالمي.
تعرّف راي على فن صناعة الأفلام أثناء عمله مساعدًا للمخرج الفرنسي جان رينوار في فيلم “النهر” The river عام 1951. تركت هذه التجربة مع رينوار فيه أثرًا سيستمر طويلًا، لا سيما في فهمه للسرد البصري والتصوير الإنساني للحياة. كان رينوار هو الذي شجع راي على اتباع حدسه في تصوير واقع الحياة الهندية، مما دفع راي إلى تصوير “أغنية الطريق” المأخوذ عن رواية لكاتب هندي يدعى بيبهوتيبوشان باندوبادياي. كان فيلم الأول متجذرًا بعمق في المشهد الاجتماعي والثقافي لريف البنغال، لكنه تجاوز تلك الحدود ليصبح قصة عالمية عن الفقر، والروابط العائلية، والقدرة على البقاء على قيد الحياة.
أسهب راي في كتابه “أفلامنا، أفلامهم”، في شرح فلسفته السينمائية، معربًا عن إيمانه بأن الأفلام يجب أن تعكس حقيقة الحياة، سواء كانت محلية أو عالمية. وقد رفض النهج البوليوودي التقليدي لصالح الواقعية مازجًا أساليب متبناة من الواقعية الإيطالية الجديدة مع تراثه الثقافي.
كان أحد أقوى تأثيرات راي هو الكاتب الهندي الأكثر شهرة في تاريخ الهند المعاصر وحائز نوبل للأدب رابندراناث طاغور، فاقتبس راي عديد من أعماله، بما في ذلك “شارولاتا” Charluta و”المنزل والعالم” The home and the world.
وجدت تأملات طاغور الفلسفية حول الطبيعة البشرية والمجتمع والهوية طريقها إلى سينما راي، حيث نسجها ببراعة في نسيج الحياة اليومية. كما وظفت أفلام راي أيضًا الموسيقى بشكل كبير، وغالبًا ما تعاون مع رافي شانكار، الذي أصبحت ألحانه على السيتار مرادفًا للإيحاءات العاطفية لأفلام مثل “ثلاثية آبو” The Abu triology. فلم تكن الموسيقى في سينما راي مجرد أكسسوار – بل كانت عنصرًا سرديًا أساسيًا في توجيه الرحلة العاطفية للمشاهد.
على الرغم من أن أعمال راي ركزت في كثير من الأحيان على تعقيدات الحياة البنغالية، إلا أن أفلامه تناولت مواضيع عالمية مثل الصراعات الطبقية، وأدوار الجنسين، وتأثير الحداثة. فتناولت باكورة أعماله “ثلاثية آبو” قضايا الفقر والطموح والخسارة والتطور، من خلال تتبع رحلة شاب من الطفولة إلى النضج بأسلوب واقعي مؤثر. وفي “غرفة الموسيقى” The music room، استكشف راي مواضيع الانحطاط والتقادم من خلال عدسة الطبقة الأرستقراطية المتلاشية، بينما درس في “ديفي” Devi مخاطر الإيمان الأعمى والسيطرة الأبوية. وفي فيلم “المدينة الكبيرة” The big city، تناول راي الدور المتغير للمرأة في كولكاتا التي تشهد تحديثًا في بنيتها الاقتصادية والاجتماعية.
تناولت أفلامه السياسية مثل “لاعبو الشطرنج” The chess players، مواضيع السلطة والإهمال السياسي في أحداث تدور على خلفية الاستعمار البريطاني. ثم امتدت براعة راي إلى أفلام مثل “الغريب” The stranger حيث تعمق في مسائل الثقة والهوية والاغتراب الثقافي، وهو ما يمثل أحد آخر روائعه. ومن الأعمال المهمة الأخرى فيلم “عدو الشعب” Enemy of the people وهو فيلم مقتبس عن مسرحية هنريك إبسن، حيث واجه راي التوتر بين الحقيقة والفساد المجتمعي، مقدمًا بيانًا جريئًا حول النزاهة الأخلاقية في مواجهة التهاون المنتشر.
كان للسينما العالمية دورًا مهمًا في صقل أدوات راي. فقد استلهم تقنياته وأساليبه من مخرجين عالميين مثل رينوار والمخرجين الواقعيين الجدد الإيطاليين مثل فيتوريو دي سيكا. إلا أن هذه التأثيرات لم تطغ أبدًا على صوته الهندي الفريد. وكما قال أكيرا كوروساوا ذات مرة عن راي: “عدم رؤية سينما راي يعني الوجود في العالم دون رؤية الشمس أو القمر”. كما أن تأثيره على مخرجين مثل مارتن سكورسيزي وويس أندرسون وميرا ناير هو تأثير معترف به على نطاق واسع. استلهم مارتن سكورسيزي – على سبيل المثال- من راي استخدامه للقصص العميقة والبسيطة حول الحياة اليومية مع تجنب الإفراط في الدراما. يظهر تأثير راي على ويس أندرسون، في تركيز الأخير على التنسيق البصري المتقن واستخدام الموسيقى كعنصر سردي. ميرا ناير تأثرت بأسلوب راي الواقعي في تصوير الحياة الاجتماعية وقضايا الطبقات. والأمثلة تتكرر.
حصل راي طوال مسيرته المهنية على العديد من الجوائز المرموقة. فبالإضافة إلى جائزة الأوسكار، حصل على جائزة بهارات راتنا وهي أعلى تكريم في الهند، وجائزة داداساهب فالكي في الهند أيضًا، ودرجة فخرية من جامعة أكسفورد. واحتفت به وبأفلامه مهرجانات دولية كبرى، بما في ذلك مهرجاني برلين والبندقية، مما عزز مكانته واحدًا من أعظم صانعي الأفلام في القرن الماضي.
نحاول في هذا الملف عرض بعض من هذه الأفلام، عسى أن تكون مع مراجعات أخرى مدخلًا لفهم سينما أحد عباقرة السينما والذي يقف مع الآباء الروحيين لهذا الفن من بريسون إلى بيرغمان وتاركوفسكي وفيليني وكوروساوا وغودار وعشرات آخرين. ونتمنى لكم قراءة ماتعة.
1- «المدينة الكبيرة»… مرآة ساتياجيت راي للتحولات الكبرى
يحتل ساتياجيت راي مكانة فريدة بين صناع السينما الهندية، فهو واحد من قليلين استخدموا السينما لاستكشاف تعقيدات الحياة الإنسانية بعمق وذكاء.
ويمثل فيلم «المدينة الكبيرة» (Mahanagar) الذي أخرجه راي في عام 1963، تتويجًا لهذه التوجه في سينماه التي يلتف حولها نقاد ومحبين في مختلف أنحاء العالم في تقدير قل أن يحظى به مخرج بوليودي.
لقراءة المقالة كاملة من هنا
2- «لاعبو الشطرنج»… الاستعمار على رقعة السينما
انشغل سكان «لكناو» في عهد «واجد علي شاه»، بالاحتفالات الفخمة، وتعاطي الأفيون، ومعارك السمان والديوك، وألعاب مثل الشطرنج وتشوبار التي تشبه المونوبولي. نظم الشعراء قصائد المجون، ابتكر الحرفيون تصاميم جديدة للدانتيل والمطرزات، انتشرت مستحضرات التجميل والعطور بكثرة. كان الشعب يناقش استراتيجيات المناورات والمعارك الكبرى للشطرنج. كانت الجيوش تُهزم وتنتصر على رقعة الشطرنج فقط. وبينما كان الجميع غارق في هذه الأنشطة، كانت بريطانيا تستعد لضم المدينة لحكمها.
لقراءة المقالة كاملة من هنا
3- شارولاتا.. سيمفونية العواطف الصامتة
لا يمكن للمهتم بمنجز المخرج الهندي الكبير ساتياجيت راي، تجاوز الفيلم الأكثر نضجًا والأقرب إلى تصوراته الفنية المثالية في تجربته كما يقول، أتحدث هنا عن فيلم “شارولاتا” Charulata الذي أخرجه راي في عام 1963.
الفيلم مبني على قصة قصيرة لشاعر الهند الأشهر رابندرانات طاغور، وينتمي لفترة مهمة في مسيرة راي بعد عدد من أفلامه المتميزة، مثل “ثلاثية أبو” و”غرفة الموسيقى”.
لقراءة المقالة كاملة من هنا