في السينما، تختلط وتتماس كل الوسائط الإبداعية، تتضافر جميعها في صيغ وأنماط تتجاوز الحدود التي تميز كل قالب منها على حدة؛ فالإطار السحري للسينما يمزج كل الفنون في كلٍ واحد، ويمنحها الفرصة لتشتبك مع حواس أكثر لاستكشاف مساحات جديدة.
على هذا المنوال، يصبح تحويل الروايات الأدبية إلى مرويات سينمائية؛ فكرة تحمل في باطنها إشكاليات عدة، لأن الوسيط نفسه مختلف، بالإضافة لكون عملية الأفلمة ذاتها تنتج شكلًا آخر، يختلف تمامًا عن المتن الأصلي، ما يجعل المقارنة بين الصنفين الإبداعيين محملة بالكثير من المفارقات.
ينسحب هذا على كل الفنون عند امتزاجها مع السينما، إلا أن أفلمة المواد الأدبية هي الشكل السائد من هذا الامتزاج الفني، كون المواد الأدبية أقرب في هيكلتها للمروية السينمائية. فالرواية أشبه بالهيكل العظمي، تأتي السينما لتكسوه لحمًا وتمنحه شكلًا حيويا أقرب لتصور المخرج عن البنية الأدبية ولغته البصرية التي تطوّر النص برؤية ذات خصوصية ورؤية ذاتية، فالنصوص الأدبية يمكن أن تخرج عن سياقها لتدخل ضمن مشروع سينمائي لمخرجٍ ما، كما في فيلم «الذبابة» The fly 1986 للمخرج الكبير ديفيد كروننبرغ.
الجدير بالذكر أن أفلمة الروايات تثير إشكاليات وأسئلة حول استقلال المروية البصرية عن النص الأدبي، أو اتحادهما معًا في مزيج متكافئ بحيث لا يمكن إلغاء صوت الرواية بشكل كامل، أو استلهام الفكرة/التصور العام والتأسيس عليها بشكل مختلف، بحيث تغطي التجربة السينمائية على قرينتها الروائية إلى درجة أن يتحول كلاهما إلى منتج إبداعي مختلف تمامًا عن الآخر، ما يجعل لكُل ناقد ومفكر سينمائي رأيه الخاص في تلك الاستلهامات الفنية العابرة للفنون. كما نرى في رأي الناقد والمفكر بيلا بلاش Béla Balázs في كتابه «نظرية الفيلم»:
«يمكن لكاتب السيناريو الذي يقتبس مسرحية/ رواية أن يستخدمها كمادة خام، ويتناولها من منظوره الإبداعي الخاص باعتبارها واقعًا محضًا، ولا يعير أي اهتمام للشكل بمجرد أن يأخذ المادة»
وبهذا يتخلى بلاش عن فكرة التكافؤ في مقابل الرخصة الإبداعية الكاملة في تطوير المنتج الإبداعي بالطريقة والشكل المناسبين، والواقع الخام هُنا لا يقل قيمة عن المنتج المطوّر، ولكنه يختلف كوسيط وكشكل عن التصور السينمائي للمخرج، وبذلك يتحوّل المنتج إلى عمل مستقل، ولكنه يلتزم ببعض من نواة المنتج الأدبي.
فيما يرى الصحفي والمفكر الألماني سيغفريد كراكاور Siegfried Kracauer أنه يمكن تفعيل فكرة التكافؤ بشرط أن يكون النص سينمائيًا أي مكتوبًا بشكل يهيئه للتحول إلى صورة، فهناك بعض النصوص التي يراها كراكاور ليست سينمائية في الأساس. وعليه فهو يقسم النصوص إلى (سينمائية ــ وليست سينمائية)، ويرى أن الهدف الأساسي للسينما هو الخلاص من الواقع المادي، فيما يرى الناقد السينمائي المؤثر آندريه بازين أن الواقع متعدد الطبقات؛ يحتوى على علاقات معقدة ومركبة يمكن للفيلم كشفها. يميل بازين إلى فكرة الإخلاص لروح النص كمدخل لتكييف النص الأدبي إلى سينمائي، لأن الفيلم السينمائي فرصة لإعادة اكتشاف التجربة بمنظور تقني وإبداعي آخر، طبعًا مع ضرورة الاهتمام برؤية المخرج الأساسية، بيد أنه يجب أن يخلص للنص الأساسي قدر الإمكان، ويحاول بطاقته الإبداعية إنشاء بنية مختلفة بروح جديدة موازية.
وعلى الرغم من ضرورة فكرة الإخلاص الأولي للعمل الأصلي، إلا أن الفيلم عند بازين هو إبداع جمالي جديد، ينتج عن جدلية إبداعية، ليتحول المخرج إلى مترجم يعيد إنتاج التجربة في وسيط جديد بأدوات مختلفة.
بالعودة لفيلم «الذبابة» لكروننبرغ؛ نجده من النماذج العمليّة المثيرة للاهتمام والتفكيك؛ ففيه يطوّع كروننبرغ قصة جورج لانغلان داخل مشروعه السينمائي المروع المبني على رعب الجسد Body horror، في مرويّة سينمائية يمكن اعتبارها مختلفة عن تخوم القصة الأصلية، فهو يأخذ النواة الأساسية (رجل يتحول إلى ذبابة) ثم يحرر نفسه حتى من بنية القصة الأصليّة، يجمع العظام الهيكلية ويخلق تكوينًا آخر ليُنتِج تجربة جديدة، بلغة بصرية ونمط سردي يمنحنا القدرة على رؤية الشخصية والتحوّل في ضوء مختلف، فكروننبرغ يدمر النسق الاجتماعي العائلي للنص الأدبي، فشخصيّة سيث براندل (جيف غولدبلوم) ذاتها غير موجودة في القصة الأصليّة، يبتدعها كروننبرغ ليخلق فيلمًا أشبه بدراسة حالة. يُزيح البنية البوليسية للقصة وهمّ البحث عن خيط يدلنا على الحقيقة، ناحيًا بنا إلى نسق أكثر غرائبية معني بعمليّة التحول ودرجاتها وعواقبها، وإلى أي درجة يمكن أن تؤثر على حياة الشخص، لينقلنا إلى ملعبه المفضل، رعب الجسد وقدرة ذلك الأخير على التحوّر والتبدل في سياقات مختلفة. غير أنه دائمًا ما يمنح كياناته الجديدة عمقًا داخليًا ورؤية عاطفية، تضفي على الجسدي طابعًا حيويًا وتربطه بإشكالية التحول ومؤثراته.
يأخذ النص الأصلي طابعًا بوليسيًا في بعض الأحيان، فالشخصية الرئيسية في الرواية يحاول تفسير لغز قتل أخيه أندريه، وتبدأ القصة بالتصاعد والتعقيد بعيدًا تمامًا عن إشكالية الجسد، إنما تأخذ قيمتها من طابعها الملغّز الذي ينكشف تدريجيًا للقارئ، بعكس الفيلم الذي يلج إلى متن التحول مباشرة دون اللجوء إلى الإلغاز، ويثير أسئلة حول جسد ذي شخصيّة تتصرف بإرادة مستقلة عن إرادة صاحب ذلك الجسد.
يشتبك كروننبرغ مع الجسدي في أكثر من طبقة، لأننا نراقب ببطء تحول جسد البطل إلى مخلوق آخر تمامًا؛ إلى ذبابة ضخمة تحمل سمات فوق بشرية، ولكنها تشي بخطر هائل لا يمكن تداركه، لأن «براندل» – البطل- والذبابة يتوحدان تدريجيًا. أما البيئة المحيطة بالبطل؛ فإنها تبدأ بإدراك خطورة التحوّر، خصوصًا في الخط الرومانسي الذي رسمه كروننبرغ بين براندل والصحفية فيرونيكا (جينا دافيز) الذي ينقلنا إلى طبقة حكائية على مستوى آخر من الإحساس.
فالفيلم رغم طبيعته المروعة وصنفه السينمائي المظلم؛ إلا أنه يتمركز بشكل كبير حول حبكة رومانسية تضفي حيوية للأبطال وتمنحهم طابعًا ديناميكيًا في دوافعهم تجاه الأشياء. إنها ببساطة قصة حب حقيقية بين فتاة وذبابة، باستهلال بشري ثم تحول ميتافيزيقي، والطابع الرومانسي الذي يتمسك به كروننبرغ حتى النهاية يخلق الشيء ونقيضه، لأنه يُعزز مفهوم الحب بغض النظر عن كُل شيء، بيد أنه يجعله مستحيلًا في نفس الوقت، تلك المفارقات التي تتكشف تدريجيًا مع تصاعد التحول تفتح الفيلم على تأويلات عدّة.
يذكر أن ذلك الخط الرومانسي لا وجود في الرواية، على الأقل بالشكل الذي ظهر عليه في الفيلم، بل أوجده كروننبرغ ليتجاوز فكرة الجسد الخارق، أو الطبيعة المشوهة للمخلوق الجديد، إلى جانب استكشاف تحول أخر مصاحب لتحول الجسد، وذلك بالتلاعب بمدلول الحُب وتطويره ليصبح دافعًا بطريقة ما الامتداد والتكاثر، وعندما نلقي نظرة على الذبابة في نهاية الفيلم، يمكن فهم دوافعها في ضوء محاولة حقيقية للتواجد، ليست ككيان يهدد الآخرين حوله، إنما كمخلوق اعتباطي وجِد، يحاول أن يكون حاضرًا بالمفهوم الأشمل.
بالإضافة لذلك، تفسّر «الذبابة» بأكثر من معنى، الكثير من التأويلات تتمركز حول الخوف من شيء ما، الخوف من الموت، من الشيخوخة، من الفقد، فانتصارات براندل الأولية تخبو تدريجيًا ويحل محلها الخوف والشكوك، واليقين العلمي يتبدّل ليرصد المخرج رحلة اضطراب الهوية مع تحول الجسد واجتياحه من كينونة جديدة إلا انها ليست طارئة عليه من خارجه. يفقد سيث براندل جسده بشكل حرفي، يسقط أنفه وتتفكك أسنانه، ورغم اكتسابه لقدرات خارقة، ينبت صراع داخل براندل بين أن يذوب ويخبو داخل الإرادة الغريزية للذبابة وفطرتها الحشرية، أو أن يحتفظ بما تبقى من إنسانيته في رأسه، فيضبط أفعاله ويوازنها بما يتحكم في تلك القدرات داخل سياقات منطقية، يتماهى ذلك الصراع مع الخط الرومانسي الذي يقع في حيز جسد يتبدل وروح تتآكل، لصالح ولادة شخصية جديدة كليًا.
بيد أن كروننبرغ ــ بفضل قدرته على معالجة الفكرة والانسلاخ من المنتج الأدبي ــ يعرض لنموذج مرن في عدائيته، ليس منفصلًا عن السياق العاطفي، وإنما يمحو تدريجيًا الخط الفاصل بين ما هو إنساني وما هو متوحش، لأن المتوحش في وجهة نظر كروننبرغ ليس فوق إنساني، إنما يحمل في طبيعته جزءًا شاعريًا لا يمكن كشفه لأنه ليس ضمن التصور السائد عن التوحش. فالأفلام تتعاطى مع تيمة التوحش أو الانمساخ بمنهجيّة تحصرها في مسمى الشر المطلق، بيد أن التيمة هُنا تنفتح على مساحة أكثر شاعرية، خصوصًا عندما يوقن براندل أنه متحوّر تمامًا، مكتمل تمامًا، ووصل إلى نُقطة لا رجعة فيها، لتتحول القصة القصيرة ذات التسلسل المثير، إلى جسد أكثر وحشية، حكاية عن الخوف والخيانة والحب، لمعت سينمائيًا لجودة المؤثرات الخاصة الاستثنائية التي خلقت وحشًا حقيقيًا، بالإضافة إلى اختيارات كروننبرغ الإبداعية التي جعلت المنتج الإبداعي أكبر من مجرد فيلم رعب سائد.
اقرأ أيضا: روبن ويليامز… الطفل الكبير أضحكنا وأبكانا