«دخل الربيع يضحك لقاني حزين
نده الربيع على إسمي لم قلت مين
حط الربيع أزهاره جنبي وراح
وايش تعمل الأزهار للميتين؟
عجبي!»
فيلم «دخل الربيع يضحك» هو بلا شك أجمل مفاجآت الدورة الخامسة والأربعين من مهرجان القاهرة السينمائي، ليس فقط للمستوى الرفيع والدرجة العالية من الجودة التي خرج عليها في مجمل عناصره الفنية من كتابة وإخراج وتمثيل وتصوير ومونتاج، ولكن أيضًا لكونه مفاجأة مصرية خالصة في ظل تحول المشهد السينمائي المصري إلى أرض جرداء، عقمت -مع استثناءات قليلة- عن الإتيان بأي جديد لسنوات طويلة.
دخل الربيع يضحك هو الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجته، المصرية نهى عادل، ويشارك في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي لهذا العام. يقدم الفيلم أربع قصص مختلفة بطلاتها من النساء سلوى (سالي عبده) التي تُفاجأ في جلسة اجتماعية بعرض زواج من جارها المسن مختار (مختار يونس)، وزازو (رحاب عنان) التي يتحول حفل عيد ميلادها إلى مشاحنة لفظية عنيفة بسبب سوء تفاهم ينكشف على إثره أخطر أسرارها، وعبير (ريم العقاد) خبيرة التجميل الشعبية التي تتعرض لأقسى الانتهاكات البدنية واللفظية على إثر اتهامها بالسرقة، وأخيرًا العروس الشابة لي- لي (كارول العقاد) التي ينهار زفافها بعد تصاعد التوتر المرعب بين أمها وإحدى صديقاتها وينكشف في تلك الأثناء سر خطير يهدد إتمام الزيجة.
أكثر ما يلفت الانتباه ويثير الإعجاب بالفيلم هو إيقاعه المشدود بحساسية شديدة الدقة. تتشارك القصص الأربعة نفس البناء المحكم، إذ تتكون كل قصة من مشهد واحد طويل تدور أحداثه في مكان واحد، باستثناء قصة رحاب التي تدور أغلب أحداثها في صالون للتجميل وتنتهي بمشهد قصير لبضعة دقائق خارج الصالون.
تبدأ كل قصة بداية هادئة متأنية يتم خلالها تقديم شخصيات القصة ببراعة سردية فائقة وبتضافر مذهل بين الحوار والصورة. يتصاعد التوتر بشكل محسوب بدقة إذ تنكشف دواخل الشخصيات سريعًا بفعل حدث محدد يدفع بالتوتر إلى ذروته وينفجر الصراع الذي يستحيل معه الحوار إلى نارٍ ثائرة تلتهم ما تبقى من روابط تشد أبطال القصة إلى بعضهم البعض، ثم تهدأ إلى أن تنطفئ، مخلفة رمادًا ساكنًا على خلفية موسيقية لشريط صوت مميز اختيرت مكوناته بعناية.
هذا التوتر المكتوم في بداية كل قصة، والذي ينفجر في ذروتها ويخمد في نهايتها، تتخلله لحظات من الكوميديا السوداء التي تقوم بوظيفة التنفيس لمُشاهد يبقى على حافة مقعده طوال 95 دقيقة هي عمر الفيلم.
في خضم ذروة الانفجار في قصة سلوى، تمتد يد الدكتور مختار ليقتطع لنفسه قطعة من الكيكة التي قدمتها مضيفته، أو أن يعلق معبرًا بإعجابه بشاي الربيع في لحظة سكوت سيطرة على الجلسة بعد انخماد الصراع.
برعت المخرجة نهى عادل في توظيف كافة أدواتها الفنية للحفاظ على هذا الإيقاع المشدود، بالتعاون مع فريق نسائي لا يقل براعة أمام الكاميرا وخلفها. بداية من الاختيارات الفنية في التصوير الذي أدارته سارة يحيى، حيث الإضاءة الطبيعية البسيطة بالاعتماد على مصادر مباشرة دون أي محاولة للتعقيد أو استخدام تقنيات موحية أو معبرة أو رمزية، لتخرج الصورة في أكثر درجاتها واقعية. فضلًا عن حركة الكاميرا المحمولة يدويًّا، التي تفرض حضورها كما لو كانت شخصية إضافية في كل قصة، فتنقل إلى المشاهد هذا التوتر في أطواره المختلفة، ولا تعدم مواطن الجمال في تجسيدها لمكنون الصدور بالتركيز على التفاصيل الدقيقة لأبسط وأدق الإيماءات الجسدية ونظرات العيون وما تحمله من معاني ومشاعر مثل الغيرة والضعف والإحباط والحرج والخوف.
كما لعب مونتاج سارة عبد الله دورًا محوريًا وحمل على عاتقه أصعب المهام على الإطلاق، وهي الحفاظ على هذا الإيقاع المشدود، سيما في القصص التي تجمع عددًا كبيرًا من الشخصيات/الممثلين في مكان محدود، حيث الانتقالات السردية الخفيفة والسلسة بين الشخصيات والانفعالات المتباينة سريعة التحول؛وخصوصًا في لحظات الانفجار في ذروة كل قصة، إلى جانب الاختيارات الدقيقة لأحجام اللقطات بما تقتضيه الحاجة حسب تغير الموقف والانفعال والشخصية. وأخيرًا التمكن الشديد من ضبط الاستمرارية حينما تسود العشوائية في حركة الممثلين داخل الكادر، في ظل اعتماد الأداء التمثيلي بشكل واضح على الارتجال اللفظي والجسدي، وفي ظل التقاطعات الكثيرة جدا لحوار الشخصيات وشريط الصوت الذي يعج بالمسارات ما بين أصوات الشخصيات والموسيقى والمؤثرات، ومزامنة كل ذلك في الأخير مع الصورة.
تصب كل هذه العناصر الفنية من إخراج وتصوير ومونتاج في النهاية في معين واحد هو الأداء التمثيلي. يضم الفيلم فريق تمثيلي ضخم قد يتجاوز الثلاثين ممثلة وممثل، الغالبية العظمى منهم ليسوا من محترفي فن التمثيل، أو على الأقل يظهرون للمرة الأولى على شاشة السينما. وربما كان هذا الاختيار الناجح للغاية لكل الممثلين وتسكينهم في شخصياتهم، هو واحد من أروع حالات اختيار الممثلين في السينما المصرية منذ سنوات طويلة. التمثيل في هذه الحالة هو قوام عنصر الواقعية في هذه القصص السينمائية المثيرة، ولم يكن الفيلم ليخرج بهذه الجودة الفنية العالية بدون هذا الأداء المميز من كافة طاقم التمثيل.
احتاج هذا الأداء التمثيلي البليغ إلى ميزان دقيق يحكمه في إطار شديد الدقة، لا يخرج عنه رغم المساحة الواسعة للارتجال التي أتيحت للممثلين. هذا الميزان هو توجيه المخرجة نهى عادل. ثم يأتي دور التصوير والمونتاج لنقل هذا الأداء بأمانة شديدة تحافظ على تماهي المشاهد وتصديقه لكل ما يراه على الشاشة. وإن كنت لا أحب المفاضلة بين أبطال الفيلم، إذ قدموا جميعهم بلا استثناء أداءات فردية وجماعية رائعة، إلا أنني لا أستطيع تجاوز أداء الممثلة رحاب عنان والتي قدمت أداءً عظيمًا لشخصية زازو.
تجربة استثنائية بكل تأكيد تلك التي قدمتها المخرجة نهى عادل في أول أفلامها الروائية الطويلة، وتمكن شديد من كافة العناصر الفنية، وبراعة خالصة من كافة فريق العمل أثارت في أذهان المشاهدين صورًا مماثلة لما تحمله ذاكرتهم الجمعية من أعظم الأعمال السينمائية لمدرسة الواقعية المصرية في تياريها الكلاسيكي والجديد.
اقرأ أيضا: «أرزة»… بحث عن ملاذ في دراجة نارية