تشكل شخصيات الأفلام داخل حِزم إيقاعية، تسبح في تيارات حاكمة لا يمكن الإفلات منها، بحيث لا تخرج عن حدود ما يفرضه عليها نمط الفيلم وإيقاعه. ولا تسبح شخصية ضد إيقاع الفيلم إلا إذا كان الإيقاع ذاته مختلًا من البداية، عدا ذلك فالجميع ينجرف مع الإيقاع العام الذي يرتبط غالبًا بتصنيف الفيلم، باستثناء حالات يعتمد فيها الإيقاع على الشخصية ويكتسب قيمته منها حين تتمركز الحكاية كلها حول الشخصية ودواخلها، وتخلق الإيقاع تبعاً لحركتها وقدرتها على استكشاف مساحات جديدة، ويتحول إيقاع السرد إلى انعكاس ذاتي للشخصية: كيف ترى الأمور وكيف تتحرك داخل عالمها الحقيقي والمتخيل. تتجسد عواطف ومخاوف الشخصية في إيقاع الفيلم، ويصنع المخرج ما يشبه عملية إزاحة؛ إزاحة لما هو عاطفي ومعنوي إلى ما هو زمني، فزمن جريان المشهد وبطء وتيرته أو تسارعها هو انعكاس جوهري للبطل، وتصوير لأزمة الشخصية الحقيقة ورؤيتها للعالم. أحدث مثال على ذلك فيلم «داخل غلاف الشرنقة الصفراء – Inside the yellow cocoon shell» للمخرج ثين آن فام.
يتتبع المخرج الفيتنامي بطله في رحلة تأملية للبحث عن الذات في أروقة الذكريات. ذلك الاتصال الملتبس بين الذاكرة والواقع يخلّف جاذبيّة يؤطرها المخرج في اتباع منهج الحكي المتمهل، والتأمل بلغة بصرية ناعمة ومدهشة تذكرنا بإدوارد يانغ وتساي مينغ ليانغ وهوشاو-شين، أساتذة السينما التايوانية والأسيوية، إضافة لمخرجين آخرين نشطين مثل أبيشاتبونج ويراسيتاكول. ومن الواضح أن فام تشرّب مدارس السينما الأسيوية بإخلاص أهّله لخلق تحفة فنيّة تُضاهي أفلام أساتذة اللقطة الطويلة والكاميرا الثابتة في أسيا، تلك السينما التأملية الفاحصة والمفككة للأنساق الاجتماعية، التي تشرِّح الذات الإنسانية بأسلوب شاعري. فالمخرج الفيتنامي في فيلمه الأول الطويل ينجح في خلق إيقاع حالم، بنموذج تجريبي يتناوب بين المنع والإتاحة، فالمشاهد كعين خارجية تحتاج إلى التورط في نموذج إنساني يكشف عن نفسه بذكاء. يتعامل المخرج مع المشَاهِد بتقنية أشبه بالتلصص، يمنح المتفرج بعض المعلومات بشكل تدريجي وواعي، لسحبه أكثر نحو الهاوية، ولا يشتبك مع المشَاهِد بالحوار بقدر ما يغرق في الصورة ويكثف الطبيعة غير الواعية للسرد، فنحن في تناوبات بين الذاكرة واللحظة الحالية، ولكننا لا نكتشف ذلك إلا في لحظات أخيرة داخل تسلسلات فيلمية طويلة ولافتة تستدرج العين بقدرتها الجمالية الهائلة، وتُغريه بإجابة شافية، ليصدمه بلقطة توحي بأن المتوالية الفيلمية الطويلة كانت مجرد استدعاء البطل لذكرياته.
ذلك المرور الحُر بين الذاكرة والواقع يُحرر الفيلم ويؤسس لمساحات كشف عن حيز شديد الحميمية، يجعلنا نحن المشاهدين نشارك بطل الفيلم تلك المساحة بكليّتها؛ همومه وإشكالياته الوجودية وتصوراته حول العالم والإله. فاللقطات كاشفة عن الصراع الداخلي والمخاوف الكبرى لدى البطل الشاب ثين (لو فونج فو) الذي يحمل اسم المخرج ذاته، كونه يحوّل شأن شديد الخصوصية إلى موضوع أكثر شمولية، أي ينتقل من الداخل إلى الخارج، فنحن محبوسين داخل رأس وذاكرة البطل، نشاركه رحلة البحث عن الذات.
غير أن تلك الرحلة، على خصوصيتها، تتعرّض لثيمات إنسانية عامة يسهل على المشاهد التورط بها: أسئلة عن الهوية وصراعات مع الحزن والوحدة، واستجواب الماضي في محاولة للبحث عن الذات والإله، إشكالية الحب والموت. كثير من القضايا التي نشتبك معها يوميًا مكثفة ومختزلة داخل نمط بصري ورمزيات إبداعية على مستوى الكتابة والشخصيات، بداية من اسم الفيلم «داخل غلاف الشرنقة الصفراء» الذي يفتح الباب للكثير من التأويلات، فالاسم يختزل مضمون الفيلم: فتى يتصارع مع ماضيه، كأنه يتفتح من جديد، ويمر بأطواره الأولى حيث يتعرّف على ذاته في ظروف جديدة دفعته إلى أماكن مظلمة في ماضيه.
الشرنقة تمثل حاجز وقائي ومساحة تحوُّل وتغيُّر في الوقت ذاته، نستشعر ببطء التغيرات التي تحدث لـ ثين حتى نهاية الفيلم حين ينفتح أكثر على ذاته وعلى العالم بطريقة غير مباشرة، فالأمر أشبه بالتحوّر والانطلاق من الشرنقة نحو العالم، ليس بطريقة مبتذلة ومباشرة؛ إنما بأفعال شديدة البساطة، مُطعمة بحاسة راسخة تدفعه للتحري والاستكشاف وتقصِّي ماضيه، أو بمعنى أخر تحفزه على إعادة الاتصال بالجذور. معظم مشاهد الفيلم قائمة على لقطات نهارية بإضاءة طبيعية ترصد مرور ثين في دهاليز الطبيعة. نتابع تحولاته وسيولة عالمه المتأرجح، ونلاحظ بسهولة تغير الطبيعة الجغرافية في رحلته لاكتشاف ذاته، من الإطار المديني المغلق، إلى السياق الطبيعي المفتوح، بانتقال تدريجي ينتهى بالانتصار للطبيعة، لدرجة انحلاله الكامل داخل الطبيعة، ولوهلة نشعر بأنه توحد مع المكاني.
تتحرك الكاميرا بناء على حركة البطل، وهذا ينعكس على حركة السرد ذاتها، الكاميرا الثابتة أو البطيئة تعكس نموذجًا سرديًّا بطيء الاحتراق، يتجسد في نمط بصري ناعم وحساس يدرك طبيعة الإشكالية التي يواجهها البطل. كاميرا متمهلة أشبه بظلٍ للبطل، تسكن عندما يسكن وتتحرك عندما يتجول أو يركب دراجته النارية، فالسمة الحاكمة للعقدة التي يواجهها ثين، أنه محاصر بالتساؤلات، عالق عند نقطة زمنية معينة، يحاول أن يتجاوزها باستجواب الماضي واستخلاص ما يمكن أن يعالج ذلك الخلل. هو مرهون بالحركة، حتى لو كانت تلك الحركة مجرد خطوات للوراء، لذلك تمنحنا الكاميرا زمنًا زائفًا، نسيج وقتي كاف لاعتياد طبيعة الفيلم الخالي من الحركة بمفهومها التجاري، وإدراك مغزى البرود الحركي.
بالإضافة إلى زمنه الذي يتجاوز الثلاث ساعات يمنحنا «داخل غلاف الشرنقة الصفراء» حساسية التركيب المعقد والمتشابك للذاكرة، دلالاتها ومضامينها وأنماطها الشكلانية السائلة على المستوى المعرفي والإدراكي، وكيفية استقصائها في عالم يتأرجح بين السيريالية والواقعية. إلى جانب المدلولات الشاعرية نجد شريط صوت مكمّل للنمط البصري، بل يتجاوز حضوره الرؤية البصرية في بعض الأحيان سواء على مستوى تعزيز الخفقان العاطفي للشخصية أو لتطوير التجربة الحسية لمشاهد سينمائية ناعمة ورقيقة، فيرسخ لسمات ما فوق بصرية، الأصوات المحيطة والتجربة المكانية التي تلف البطل في رحلته، بما تحتويه من عناصر رنانة وعوامل حافلة بالصخب والهدوء.
اقرأ أيضا: «الشتاء الأخير» … رحلة حنين وشغف بالسينما