فاصلة

مراجعات

«خط التماس»… لبنانية تحمل الحرب الأهلية في حقيبة مدرسية

Reading Time: 4 minutes

في الوثائقي اللبناني «خط التماس» Green Line تستعيد فيدا البزري ذكريات طفولتها التي عاشتها بالكامل أثناء تلك الحرب الأهلية التي اشتعلت في البلاد بين عامي 1975 و1990، في فيلم هجين يجمع بين الوثائقي والتحريك من إخراج الفرنسية سيلفي باليو، يشهد عرضه الأول في المسابقة الرسمية للدورة 77 من مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي.

يبدأ الفيلم بتعليق صوتي لمخرجته الفرنسية تخبرنا فيه أنها صممت دمية صغيرة تشبه بطلة الفيلم أهدتها إياها ودعوتها إلى زيارة لبنان «لإعادة زيارة الموت» على حد قولها. تعود فيدا، المولودة قبل أيام من اندلاع الحرب الأهلية، إلى بيروت مختلفة عن تلك المحفورة في ذاكرتها منذ الطفولة. تقتفي أثر الذكريات المؤلمة والصادمة في أماكنها الأصلية، تزور مدرستها القديمة، وتعبر خطًا وهميًا يقسم المدينة إلى شرقية وغربية، خطًا عُرف في الماضي باسم الخط الأخضر.

فيلم خط التماس
فيلم خط التماس

أول ما يلفت الانتباه إلى فيلم «خط التماس» هو أسلوبه البصري الذي يدمج المشاهد الحية بتقنية إيقاف الحركة Stop-motion. لم يعد من الغريب أو المستحدث أن تستعين الأفلام الوثائقية بأشكال وأنواع فيلمية أخرى، بل صار من الشائع في السنوات الأخيرة أن يمتزج التسجيلي بالروائي أو بالتحريك بحثًا عن أفق أوسع للتعبير وتجاوزًا لأزمة نقص المواد التسجيلية أو الأرشيفية الضرورية لدعم السرد البصري للأفلام. 

فيلم خط التماس
فيلم خط التماس

ظهرت فكرة الاعتماد على المجسمات للأماكن والشخصيات في الفيلم المغربي «كذب أبيض» الذي عرض في قسم «نظرة ما» بمهرجان كان السينمائي عام 2023، وفازت عنه مخرجته أسماء المدير بجائزة أفضل إخراج، كما فاز الفيلم بجائزة العين الذهبية مناصفة مع فيلم المخرجة التونسية كوثر بن هنية «بنات ألفة».

يذهب فيلم «خط التماس» في استخدام المجسمات إلى أفق أبعد وأعمق كثيرًا من الفيلم المغربي، فيقدم تقنية إيقاف الحركة بشكل متطور للغاية اعتمادًا على المجسمات والدعائم والمئات من القطع الفنية المصممة بدقة فائقة بعدة أحجام وأبعاد لتتناسب مع أحجام اللقطات المختلفة كيفما يقتضي المشهد، بالإضافة إلى تنفيذ التصوير المتعاقب بشكل دقيق جدا لتظهر حركة الدُمى والمجسمات المختلفة للحيوانات والمركبات والأشياء بصورة طبيعية وواقعية. 

مشهد من فيلم خط التماس
مشهد من فيلم خط التماس

هذا على المستوى التقني، أما على المستوى البصري فنجد أن هناك اهتمامًا كبيرًا بأصغر وأدق التفاصيل في محاكاة المواقع والأماكن، الشوارع والطرقات، الملصقات على الحوائط، الأبنية المنهارة، المركبات، وغيرها من التفاصيل التي ترسم صورة بيروت في تلك الحقبة، ينقلها الفيلم بمصداقية شديدة إلى الحد الذي تكاد تتطابق فيه مع صورتها في المواد الأرشيفية أو الصور الحية. أو كما نرى في إحدى اللقطات في بداية الفيلم عند الانتقال السريع من لقطة لدمية البطلة أمام مدرستها إلى البطلة نفسها في الموقع ذاته في الحقيقة.

باستثناء التعليق الصوتي الوحيد للمخرجة في المشهد الافتتاحي، تقود البطلة فيدا البزري السرد في الفيلم لتحكي قصة طفولتها التي عاشتها وسط نيران الاقتتال الأهلي. ورغم ذاتية القصة التي تترسخ عبر أسلوب السرد والأسلوب البصري بشكل عام، لكن تظل المعالجة ذات بعد إنساني وعالمي، إذ يخرج الفيلم في رؤيته إلى الحرب من الخاص إلى العام، من قصة فيدا إلى قصة الحرب الأهلية اللبنانية، ومن الحرب اللبنانية إلى الحرب بشكل عام. تجرّد المعالجة السينمائية الحرب من أبعادها التاريخية والسياسية والجغرافية، لتكثف من النظرة الإنسانية لأثرها المدمر الذي لا يزول بعد زوال الحرب نفسها. 

صورة شهيرة لمجزرة الكرنتينا
الحرب الأهلية اللبنانية

تحكي فيدا قصتها مع الحرب من منظورها الخاص، من منظور الطفلة التي كانتها قبل ما يقرب من نصف قرن. على خلفية المواد الأرشيفية يأتي صوت فيدا محملًا بمشاعرها الأصيلة بدون أي محاولة لاستدرار تعاطف المشاهد أو اللعب على وتر الجانب النفسي أو حتى محاولة شخصنة الحكاية رغم ذاتيتها المفرطة، فالبطلة والمخرجة مخلصتين للغاية لفكرة تجريد الحكاية الذاتية للتعبير عنها سينمائيًا بشكل يمكن التماهي معه من الجمهور أيًا كانت خلفيته وأيا كان موقعه من الصراع والتاريخ والجغرافيا.

على مدار الفيلم، تتنقل البطلة بين شوارع بيروت في ثوب أحمر، وتحمل حقيبة مدرسية حمراء، كتلك التي تحملها دميتها. تبدو الحقيبة في المشاهد الحية أصغر حجمًا من أن تناسب امرأة بالغة. ربما كانت حقيبة حقيقية حملتها فيدا في طفولتها. ثمة مجاز شائع يصور الحمولة النفسية لصدمات الماضي في صورة حقائب نحملها على ظهورنا مع تقدمنا في العمر والحياة، وهو ما ينطبق في حالة هذا التشبيه السينمائي، فمن ناحية تجسد هذه الحقيبة حمولة البطلة الأثقل على الإطلاق والتي تحملها من سن صغيرة للغاية، ومن ناحية أخرى هي حقيبة مدرسية تقليدية تعبر عن الشكل الطبيعي من الحياة لطفلة في هذه السن، الحق الإنساني الأصيل الذي حرمتها إياه الحرب. وأخيرًا يأتي اللون الأحمر للرداء والحقيبة بكل ما يحمله من دلالة تتصل بالدم والعنف والحرب، أو على حد تعبير جدة فيدا في وصفها للحرب بأنها «جهنم حمراء».

مشهد من فيلم خط التماس
مشهد من فيلم خط التماس

يراوح الفيلم بين ثنائيات متعددة، فالسردية تنتظم في خطين زمنيين متصاحبين هما الماضي ممثلًا في صوت فيدا وحكيها على خلفية مشاهد المجسمات والدمى وتقنية توقف الحركة، والحاضر ممثلًا في جولاتها في المدينة ومقابلاتها مع سكانها من البسطاء أو مع أولئك المتورطين في الصراع بشكل مباشر، من حمل منهم السلاح ومن لم يحمل. كما تشمل هذه الثنائيات الانتقال بين الطفلة (الدمية) والمرأة البالغة، بين المواقع الحية للشوارع والأبنية والمجسمات التي تحاكيها، بين اللقطات الحية وبين المواد الأرشيفية. تمنح هذه الثنائيات والتنقل السلس بينها، الفيلم طزاجة دائمة وتحافظ على انتباه المشاهد الدائم وانخراطه في الحكاية في بعديها التاريخي والإنساني، وتماهيه مع بطلتها في طوري الطفولة والنضج، وهو الأمر الذي يبلغ ذروته في مشهد مواجهة فيدا للمسلح في الماضي والحاضر.

سيلفي باليو هي مخرجة فرنسية أخرجت العديد من الأفلام الوثائقية والروائية وشاركت في العديد من المهرجانات العالمية من بينها مهرجان كان السينمائي. استطاعت باليو، بمساعدة فيدا التي شاركتها كتابة الفيلم، أن تلتقط جوهر تجربة بطلتها وقصتها مع الحرب، وعبرت عنها بحساسية سينمائية شديدة لتقدم واحد من أجمل الأفلام الوثائقية لهذا العام بكل تأكيد.

اقرأ أيضا: «المُرهَقون»… تَعَبُنا الشخصي في مرآة السينما

شارك هذا المنشور