فاصلة

مقالات

«حرب عالمية ثالثة».. هومن سيدي وبراعة صنع فيلم داخل آخر

Reading Time: 4 minutes

«لا يعيد التاريخ نفسه ولكنه يتشابه».. يعيد لنا المخرج هومن سيدي صياغة مقولة مارك توين تلك،  ليستهل بها فيلمه «حرب عالمية ثالثة»، ويأخذنا معه بين كواليس إعادة تشكيل ركيكة لحرب بطلها «شَكيب»، الرجل المعدم ذو الندوب النفسية الواضحة على ملامح وجهه المنهك، والذي برع «سيدي» في أن يُظهر التعقيدات النفسية العميقة لشخصيته حيث تتجسد فيها مشاعر اليأس، والخوف، والأمل، والاضطراب الداخلي، والتي يُبرزها المخرج من خلال مشاهد مكثفة تُظهر الصراعات الداخلية للبطل، مما يجعله شخصاً قريباً من الواقع ومعقولاً رغم الظروف غير الاعتيادية التي يمر بها.

على هامش الحياة

«شَكيب» والذي يؤدي دوره الممثل الإيراني محسن تنابنده، يعيش على هامش الحياة، ويكتفي بالحد الأدنى من كل شيء. يتجرع ألم ذكرى فقدان زوجته و ابنه، على إثر زلزال ضرب محل إقامته.

حرب عالمية ثالثة

 شخصية «شكيب» تحمل أيضاً رمزية ودلالات أعمق تتعلق بالوضع الاجتماعي والسياسي في إيران. من خلال تجاربه ومعاناته، يعكس البطل حالة الكثير من الأفراد في مجتمع يعاني من الضغوط والصراعات. هذه الرمزية تضيف بعداً فلسفياً وفكرياً للفيلم، وتجعل من البطل رمزاً للإنسانية المتألمة والمقاومة في وجه الظروف الصعبة.

حرب عالمية ثالثة

ويقوده حظه العاثر للعمل في منطقة بناء، ليتضح فيما بعد أنه موقع تصوير فيلم يحكي عن فظائع الزعيم النازي أدولف هتلر وجرائمه خلال الحرب العالمية الثانية. وينتهي به الحال ممثلاً دور هتلر في الفيلم بعد أن أصيب ممثل الدور الرئيسي بوعكة صحية.

حرب عالمية ثالثة

فيلم داخل فيلم

منذ اللقاء الأول لنا مع «شَكيب»، نرى بوضوح مدى بساطة حياته، حيث يتمحور مدار يومه ما بين حديث بالإشارة لما يراه خلال يومه مع فتاة صماء، وبين صديقة البقال، ثم ينقلب به الحال ليجد نفسه في خضم حرب ظاهرها يحكي عن معاناة شخصية، وباطنها يعكس معاناة شعب ومجتمع بأكمله. لنجد أنفسنا أمام فيلمين في سياق واحد.

فمن أول جملة مقتبسة في الفيلم، والمخرج يسير بنا بين خطين متوازيين، لنشهد «شكيب» الضحية ومعاناة الفقر والفقد، و«شكيب» الطاغية الذي تقمص دور هتلر باحترافيه.

لنشهد على تطور شخصية شكيب منذ لحظة اندماجه في مجتمع كواليس موقع التصوير، حيث نرى شخصية غير متطلبة، و أقصى طموحاتها أن تجد مكان نوم لا تتسرب من سقفه المياه.

ولكن يتم جره مع بقية العمال للمشاركة في تصوير مشهد غرفة الغاز. في صورة واقعية تظهر لنا أن هؤلاء العمال لا يعلمون ما الذي يحدث معهم، ورمزية مبطنة لحال المجتمع الإيراني القابع تحت رحمة حكومات لا تتغير آليتها وإن تغير الزمن.

حتى يصل الأمر مع شكيب أن يجد نفسه بديلاً لبطل الفيلم ليمثل شخصية هتلر رغم رفضه لذلك، وانعدام التشابه بينهما. إلا أنه قَبِل بذلك لأنه سيتمكن من النوم في المنزل الأحمر.

حرب عالمية ثالثة

لحظة التحول

بعد أن انتقل «شكيب» للنوم في البيت الأحمر- القصر المؤقت للتصوير-، وبعد أن رأيناه يشارك فتاة صماء مكالمات فيديو على مدار الأيام التي قضاها في موقع التصوير. تستنجد به تلك الفتاة «لادان» التي تجسد شخصيتها مهسا حجازي، بعد أن هربت من الرجل الذي تعمل لديه كبائعة هوى، لنكتشف أن هنالك علاقة حب تربط فيما بينهما.

نرى شكيب هنا يحاول إنقاذ «لادان»، وحمايتها من القواد، وتأمين مكان تختبئ فيه معه في البيت الأحمر بعيداً عن أعين الجميع، وكأنه يجيب على سؤالها في أول مشهد في الفيلم. عندما سألته، وهو يروي حادثة عن كلبة دهستها سيارة أثناء عبوره الشارع. في جوار الكلبة كان جروها الصغير يصرخ من الجوع، وفيما كان جسد الأم ينزف، لم تبخل بضخ اللبن للرضيع. «رضع وهو يبكي»، يقول شكيب، وتسأله الفتاة «هل أنقذتها؟».

تواطؤ وسرقة للأمل

بعد أن دخل الأمل لحياة «شَكيب». لم تتوانى الحياة عن قطع آخر أنفاس تلك اللحظات اللطيفة. في حياته البائسة. فلقد فقد «لادان» في حريق المنزل الأحمر، فلم يخبره أحد عن مشهد احتراق المنزل. تلك اللحظة التي قصمت ظهر «شكيب»، قدم فيها مشهد بكاء صامت لا نسمع منه سوى الأنين. وكانت هي نفسها لحظة مقتل «شكيب» أيضًا، وحدوث انفجار مدوي في وجه الظلم.

فسلب منه المخرج كل ما تبقى من أمل. عندما خدعة مع القواد في إقناعه على هروب «لادان»، وأنها لم تلقى حتفها في ذلك الحريق. وكنتيجة طبيعية، يكون الخيار الوحيد لشكيب هو الانتقام، ليصبح هنا بدوره القاضي والجلاد، وينفجر في وجه المجتمع بكل طبقاته وأفراده، ويضع السم في طعام الجميع، ويجلس بظهر مفرود على رأس الطاولة دون أن يرف له جفن، وهو يرى طاقم العمل يتساقطون أمامه واحداً تلو الأخر. 

نهاية تستنجد بلا صورة

وكما بدأ الفيلم بصورة سوداء تحمل مقولة مارك توين: «لا يعيد التاريخ نفسه ولكنه يتشابه». ينتهي الفيلم بصورة مأساوية وشاشة سوداء أخرى. تخرج منها صيحات طاقم العمل وهم يستنجدون: «ساعدونا».

تصلنا رسالة الفيلم كاملة بشقيها الشخصي المتجسد في شخصية «شكيب»، واجترار الألم والبؤس في فقر مدقع وحياة مهمشة، والشق السياسي والاجتماعي المتشكل في تصوير الحكومات الجائرة، وأثرها على المجتمع.

قبيل تساقط طاقم العمل نشهد على التحول العنيف في شخصية «شكيب» وقراره بالانتقام وقتل الجميع بلا استثناء بوضع السم الذي سبق أن سرقه من خزنة صديقه، والذي بدوره اكتشف فعلته وأتى ليحاسبه، ولكن «شكيب» قرر أن يقتل صديقه قبل أن يحذر الجميع.

وفي النهاية يتركنا المخرج هومن سيدي مع نهاية متقنة، ومتسقة مع أحداث الفيلم وتطور الشخصيات.

اقرأ أيضا: «مكان هادئ: اليوم الأول»… بيتزا في نهاية العالم

شارك هذا المنشور