فاصلة

مقالات

جين هاكمان.. وجه «هوليوود الجديدة» بعنفوانها وتخبّطاتها

Reading Time: 7 minutes

جين هاكمان من الذين نشأوا في فترة شكوك وتحديات حملته ليصبح في النهاية واحدًا من أعظم الممثّلين في تاريخ السينما الأميركية. حكايته لا تتقاطع مع حكايات النجوم الذين صعدوا إلى القمّة في الخمسينات والستينات، كون بدأ مشواره في سن متأخرة. كان تجاوز عامه الثلاثين عندما ظهر للمرة الأولى على الشاشة. انتظر حتى بلغ الأربعين ليحقّق انطلاقته الحقيقية مع فيلم «الرابط الفرنسي – The French Connection» من إخراج وليام فريدكين. ومن تلك اللحظة، بدأ يتألق ليصبح من القامات الكبيرة في مجال التمثيل.

هاكمان الذي ولد بين حربين عالميتين، خلال ما يُعرف بـ«الكساد الكبير» في أميركا، هو في الأصل من سان برناردينو، ولاية كاليفورنيا. كان من أسرة يهمين عليها ظلّ والده المتزمت الذي عمل في الطباعة. عاشت أسرته حياة متنقّلة بين ولايات عدة، قبل أن تستقر في دانفيل، إيلينوي. طوال تلك السنوات، كان الفتى جين يشعر بغياب والده المستمر عن المنزل، ممّا جعله يعيش في عزلة مستمرة. تنقّل بين مدارس عدة، لكنه كان دائمًا يعيش تلك الوحدة، ممّا حال دون أن يبدأ أي علاقة عاطفية. كان لديه ملاذه الخاص، منزل صغير من الكرتون بمثابة مكان يختبئ فيه عن العالم. لكن مع مرور الوقت، أصبح حبّه الأكبر التمثيل والسينما، وكان هذا الشغف سيتطور ليصبح أكثر من مجرد هواية، بل هدفه وسبب وجوده. التمثيل كان وسيلته لتجاوز خجله، وقد قرر في سن العاشرة أنه سيكون مصيره أيضًا. أضحت السينما المسار الذي وجد فيه ذاته. البيئة التي عاش فيها، جعلته يبلور مشاعر الإحراج، وهو بذلك يختلف عن آخرين تربّوا في كنف الفخر والاعتزاز.

جين هاكمان
جين هاكمان

علاقة قوية وعميقة ربطته بداستن هوفمان وروبرت دوفال، لا فقط على مستوى الشاشة بل في الحياة الشخصية. انطلق الثلاثة في الفن في ظروف رهانات وتحديات معقّدة، جمعهم الفقر والتشرد، وكانوا ينامون في منازل الأصدقاء، متّحدين بحبّهم لفن التشخيص. معًا، خاضوا معموديات نار، عايشوا الرفض وتمسّكوا بالصمود. رغم مظهرهم الذي لم يكن يتوافق مع معايير النجومية في ذلك الوقت، تمكّنوا من الاختراق وإيجاد أدوار تناسبهم ينطقون بالواقع من خلالها. باختصار، كان لهم دور في إعادة تعريف مفهوم النجم في السينما الأميركية. اليوم، من الصعب التفكير في هاكمان، الراحل بظروف غامضة عن 95 عامًا، من دون استحضار نهاية الستينات وبداية السبعينات، سنوات الطفرة تلك التي وثّقها بيتر بيسكند في كتابه الرائع «إيزي رايدرز ورايجينغ بولز».

في الخمسينات، كانت هيمنة مارلون براندو وجيمس دين وبول نيومان، بوسامتهم وأجسامهم المنحوتة، حقيقة لا مهرب منها. بعدها بعقد وأكثر، قلب جيل هاكمان الموازين، رغم ان الأخير كان يصغر براندو بست سنوات فقط! عام 1956، تزوج هاكمان صديقته فاي مالتيز، ومعًا ذهبا إلى كاليفورنيا ثم إلى مسرح باسادينا حيث طُرد منه، لكن ذلك لم يكن سوى حافز أكبر للنجاح. وصودف أن دور ماركو في «منظر من جسر» كان شاغرًا، فما كان من المخرج أولو غروسبارد، إلا أن أسند الدور إليه. هكذا بدأ مشاوره الذي أخذه من مدينته إلى شاشات العالم مستأثرًا بنظرات الإعجاب والانبهار.

في أواخر الخمسينات، كان هاكمان بلغ نهاية العشرينات، يتردد على مسرح باسادينا. ملامحه حادة وطوله يقارب من المتر والتسعين سنتيمترًا. كان يميل إلى السخرية من الذات، وفي تلك الفترة، تعرف إلى داستن هوفمان الذي كان يعاني، على غراره، من صعوبة في التكيف مع محيطه. الأخير تنبّأ بأن صديقه الجديد سيكون صاحب شأن في يوم من الأيام. وبالفعل، أصبح هاكمان أحد رموز «هوليوود الجديدة» في مطلع السبعينات، مع صعود ذلك التيار السينمائي الذي عصف بنظام الاستوديوهات وأفرز جيلًا جديدًا من صنّاع الصورة حمل معه رؤية مغايرة للواقع، وحدث ذلك بالتفاعل مع ما جرى في فرنسا قبل نحو عقد. هاكمان نتاج تلك الحقبة. الوجه الذي حمل عنفوانها وتخبّطاتها.

جين هاكمان وزوجته بيتسي أراكاوا
جين هاكمان وزوجته بيتسي أراكاوا

في رصيده نحو 85 فيلمًا روائيًا طويلًا، خلال فترة عمل ناهزت الخمسين عامًا، نجد بينها، في طبيعة الحال، الغث والسمين. لكن حضوره، حتى في الأعمال العادية والاستهلاكية، كان يمنحها قيمة مضافة. للأسف، في العام 2008، اتّخذ قرار التوقّف عن العمل وما عدنا سمعنا عنه شيئًا حتى لحظة وصول خبر رحيله، هو وزوجته، في حادثة لا تزال فصولها غامضة.

The French Connection (1971)
The French Connection (1971)

بعد مشاركته في «بوني وكلايد» لآرثر بن، بناءً على نصيحة من بطله وارن بيتي، فإن الفيلم الذي كرسه وشرع له كلّ الأبواب هو أيضًا الفيلم الذي نال عنه «أوسكار» أفضل ممثّل. إنه «الرابط الفرنسي» لوليم فريدكين. نراه في دور الشرطي القاسي الذي يطارد مهرّبي المخدرات. تشارك كلّ من فرناندو راي وروي شايدر بطولة هذا العمل الذي يمكن القول أنه أحدث في تلك الفترة قطيعة مع السينما الهوليوودية، مستلهمًا من الواقع، ذلك أن السيناريست إرنست تيديمان استوحى الأحداث من تحقيق بوليسي عن شبكة تجارة مخدرات تهرب الممنوعات من جنوب فرنسا إلى أمريكا. حقّق الفيلم إيرادات عالية، وفاز بخمس جوائز «أوسكار»، من بينها «أفضل فيلم». لا يمكن الحديث عنه من دون ذكر مشهد المطاردة في شوارع بروكلين النيويوركية مع جين هاكمان خلف المقود، إذ يعتبره كثر، مع «بوليت»، أهم مطاردة في تاريخ السينما.

في «مغامرة بوسيدون» لرولاند نيم الذي أعطى هاكمان واحداً من أول أدواره البطولية، يلعب ممثّلنا دور القس فرانك سكوت. فيلم كارثة تحدث فصوله على سفينة سياحية على وشك الغرق. أداؤه كقائد متعنّت يحاول التعامل مع الناجين ترك ذكرى طيبة عند المشاهدين.

Scarecrow (1973)
Scarecrow (1973)

في «الفزاعة» («سعفة» مهرجان كانّ 1973)، أحد أهم أفلامه، يلعب هاكمان دور شخصية تُدعى ماكس. الفيلم «رود موفي» أخرجه جيري شاتزبرغ (حاليًا في السابعة والتسعين). الحكاية عن إثنين من المتشردين المتعثرين (هاكمان وآل باتشينو)، يشرعان في رحلة لاكتشاف الذات، في إطار كفاح لا ينتهي لفهم الحياة. هذا دور آخر يرينا قدرة هاكمان على تجسيد الشخصيات المعقّدة، كاشفاً لقطة بعد لقطة عن شياطينه الداخلية، مع ذلك الميل المستمر لعدم صرف النظر عن لحظات الدفء. جاء هاكمان بأداء هادئ وقوي ميزه طوال حياته، معززّا رصيده باعتباره ممثّلا يصلح لأن يعطي للشخصية أكثر من بُعد واحد، وذلك في سياقات متنوعة.

«المحادثة» لفرنسيس فورد كوبولا خلّده وصنع له مكانة معتبرة. خبير (هاكمان) يراقب آخرين، قبل ان يكتشف انه هو نفسه أيضاً مراقب. تحفة كوبولا استشف المستقبل. المشهد الأخير، حيث نراه يلعب على الساكسوفون، بعد أن نرى آثار العبث بشقّته بحثاً عن الميكروفون الذي زُرع فيها، واحد من أجمل مشاهد الختام عبر التاريخ. تضمّن الفيلم هاجس البارانويا الذي كان سيصبح حقيقة ملموسة في السنوات اللاحقة. الفيلم، هو الآخر، نال «سعفة» كانّ، وذلك بعد عام واحد على «الفزاعة».

The Conversation (1974)
The Conversation (1974)

مع «نايت موفز»، تعاون هاكمان للمرة الثانية مع الكبير آرثر بن، في عمل مثير يمزج بين الغموض والوجودية. أداؤه في دور هاري موزبي جاء متشعّبًا. الشخصية محبطة ومنهكة، تكافح مع بوصلة أخلاقية مشوّشة. أضاف إليها هاكمان عمقًا خاصًا، مستنبطًا الضعف والإحباط والشعور بالعزلة. مرة أخرى، برع في تجسيد شخصيات معيبة، لكنها محبوبة، تأكيدًا لموهبة صارخة في تجسيد كاراكتيرات تتعامل مع الألغاز الخارجية والصراعات الداخلية في آن واحد. جملة عبقرية دسّها آرثر بن في الفيلم على لسان هاكمان، مصفّيًا بها حسابًا سينيفيليًا: «ذات يوم شاهدتُ فيلمًا لإريك رومير، وكان ذلك أشبه بمراقبة لوحة تجف».

«سوبرمان»~ (1978) لريتشارد دونر، كان دليلًا آخر على تنوع خيارات هاكمان. شخصية خصم البطل الخارق وفّرت له اطلالة دولية، ومكثت في الذاكرة لأجيال. لكن، ليست كثيرة التحف التي انخرط فيها على مدار الثمانينات. لا بأس ببعض الأفلام التي شارك فيها، مثل «هوسييرز» حيث يلعب دور مدرب كرة سلّة. من المرحلة نفسها، نتذكّر له أيضًا »حريق ميسيسيبي» لآلن باركر الذي أسند اليه دور عميل في مكتب التحقيقات الفيدرالي يحقّق في جريمة قتل. تجسيد هاكمان لشخصية صارمة ومعقّدة أخلاقياً نال عليه إشادة كبيرة.

Gene Hackman in Superman (1978)
Superman (1978)

في سجل هاكمان حرفيون وأيقونات إخراج. نيكولاس روغ يمثّل الشريحة الثانية، وقد أعطاه في «أوريكا» (1983)، دور باحث عن ذهب، من خلال دراما بطيئة تتمحور على التدهور النفسي والأخلاقي لهذا الرجل، وذلك بعد أن تتسبّب ثروته بعزله عن العالم. إنها شخصية مضطربة تصارع فكرة أن الثروة التي عمل جاهدًا للحصول عليها هي في النهاية ما يدمّر حياته. وقد جسّدها هاكمان بأسلوب غاية في الاقتصاد.

«اللا مغفور» في بداية التسعينات، وهو وسترن بديع من إخراج كلينت إيستوود، ذروة أخرى في مسيرته، أطل فيها بدور «الشريف» في بلدة واقعة في عمق أميركا. لن يجسّده هاكمان كمجرد منفّذ للعدالة، بل كشخص فاسد عنيف يستخدم الترهيب للحفاظ على السيطرة، وقد نال عنه ثاني «أوسكار»، ولكن هذه المرة في دور ثانوي. دائمًا تحت إشراف إيستوود، سيعود بعض سنوات مع «كامل الصلاحيات»، مجسّدًا دور الرئيس آلان ريتشموند الذي يواجه مؤامرة خطيرة. هذا الدور أراده إيستوود انعكاسًا مرعبًا لسوء استخدام السلطة من أجل مصالح شخصية. فيلم عن الانحلال الأخلاقي الذي يمكن أن يصاحب القوة السياسية اللامحدودة.

Unforgiven (1992)
Unforgiven (1992)

مع مطلع الألفية، وقبل فترة قصيرة من مغادرته الشاشات، رأيناه في أفلام مثل «تحت الشك» لستيفن هوبكنز. فيلم آخر عن السلطة المطلقة وشوائبها، من خلال محقّق متمرس وصراع أخلاقي مع الذات. في آخر سنوات نشاطه، شارك في «عائلة تننبوم» لوس أندرسون. نوع كوميدي، كان له بعض الحضور الناجح فيه، رغم ما ارتبط بملامحه من قسوة ورهبة.

الفنّان موهبة وحضور وأسلوب وتقنيات، ولكنه أيضًا رهانات سليمة. وكان لهاكمان في هذا المجال رهانات مربحة. جازف ولم يخب أمله. لا ممثّل يتعاظم شأنه مع أفلام عادية، وما جعل هاكمان كبيرًا هو أيضًا عدد الأفلام المهمة التي ظهر فيها. هذه علاقة تكاملية بين النصّ والتمثيل. والأهم أنه لم يبقَ على ثباته الانفعالي. لم يلتزم مدرسة، حدّ أنه تحوّل هو نفسه إلى مدرسة. هيمن على المشهد بشخصيات ذات حضور جازم. شخصيات قادرة على توليد احساسين متناقضين ومتفاوتين في لحظة واحدة. كان هاكمان الرجل العادي الذي يتصدّر المشهد محولًا إياه لحظة ذات معنى، وهذا ما هو عليه «المحادثة» وأفلام أخرى كثيرة، إذ يعود إليه الفضل في إضفاء لمسة سحر تجعلك أقرب من الشاشة.

جين هاكمان
جين هاكمان

لا أستطيع ان أرى في هاكمان إلا المقابل الأميركي لميشال بيكولي، فنّان لا تعرف من أين أتى بهذه الكاريزما، ومع الوقت يجعلك لا تهتم. تشاهده وحسب. لم نره يطعن كثيرًا في السن ويشيخ على الشاشة، إلا بعدما ابتعد عنها وغادرها، تاركًا فينا هذا الانطباع بأنه كان دائمًا من جيل المشاهدين الذين يخاطبهم. برع في المَشاهد حيث لا يتحدّث ويتحرك كثيراً، بدرجة شطارته في مشاهد الحركة المتواصلة، حيث لقامته ومعطفه وقبّعته وكلّ التفاصيل دور في صناعة مكانته البصرية.

اقرأ أيضا: خمسون سنة على «المحادثة»… جوهرة كوبولا المخفيّة

شارك هذا المنشور