أهم عنصر تقاس عليه الأعمال الفنية يكمن في مدى إحكامها لخصوصيتها مقارنة بالأجناس الفنية الأخرى، ما الذي يوجد في السينما ولا يوجد في غيرها؟ نطرق هنا عملية التحليل في كيفية استغلال العمل لخصائص الوسيط وكيف يفكر العمل بذلك.في السينما نتحدث تحديدًا عن المجاز الحركي، القبض على الوقت، التحليق في انبعاثات الزمان، والتنقل بومضة بين مختلف المواضع الأرضية. أجل، هو فن الطيران والحركة داخل الأحلام.
المعلم البرتغالي ميغيل غوميز هو سيد تلك الومضة، طرقة العصا السحرية للسينما التي تأخذنا بين الأبعاد المختلفة، بين الواقعي الوثائقي والخيالي القصصي، بين الكاريوكي الموسيقي عند الشوارع الشعبية والتأملات اللذيذة في السينما الصامتة وهوليوود الكلاسيكية.
هو مستكشف برتغالي بطبعه، كفاسكو دي غاما حاملًا الكاميرا، مبحرًا في سبل التعبير في الهجين الوثائقي والروائي، في مدغشقر جنوب شرق أفريقيا كما كان في “تابو” Tabu، أو كما حدث هنا في “الجولة الكبرى”Grand tour هاربًا في فصل وباحثًا في آخر، بينما يمر بمجموعة من دول شرق آسيا، أو كامنًا في حجر منزلي وقت الجائحة كما صنع في فيلمه “مذكرات تسوغا” The Tsugua diaries.
في “جولة كبرى”، الذي قد يكون أروع أفلام المسابقة الرسمية للدورة 77 لمهرجان كان السينمائي، يأخذنا غوميز في جولة تبدأ من يانجون في بورما، ومنها إلى سنغافورا، فمانيلا الفلبين، بانكوك تايلاند، سايجون فيتنام، أوساكا اليابان، وشنغهاي الصين.
بطل الحكاية هو الضابط البريطاني إدوارد، أحد ضباط الإمبراطورية البريطانية، الذي يقوم برحلة مشوبة بالشكوك ومملوءة بالغموض في مستعمراتها عام 1918 جنوب شرق آسيا، والذي نكتشف لاحقًا أنه قام بهذه الرحلة هروبًا من خطيبته (مولي)، مبتعدًا عن علاقة حب دامت سبع سنوات من دون بيان سبب عدم رغبته في الزواج، لكن هذا الهروب يبدو وكأنه انجرافًا من إدوارد إلى المجهول، مسحوبًا بميلانخوليا يصونها الطابع المزاجي الذي تتنفسه الصور.
تتقدم حكاية هذه الجولة من خلال التعليق الصوتي للراوي الذي نسمعه بلغة كل بلد يضع إدوارد قدميه فيه، وتقاطع الصور هذه للقصة المتمثلة بالخيال الروائي في عصر قديم مع لقطات حديثة للمواضع التي يمر بها إدوارد، الحياة الحديثة في الأماكن نفسها اليوم، فنتنقل طوال الفيلم بين سرد الماضي والصور ذات الطابع الوثائقي التي تتضمن الحاضر، تظهران بالتوازي تمامًا كخطين متقابلين، بينما تعبر كل لقطة عن تقدير للفتة في منطلق الخيال الروائي من جهة والأماكن الحديثة لليوم، مع حساسية تعبيرية تجعلنا في موضع الانفتاح على مد الحياة بمختلف الثقافات والأشكال السردية.
نشاهد في هذه اللقطات المصورة من اليوم عروض الدُمى في كل ثقافة باعتبارها وسيلة لسرد القصص. نرى دمى متحركة، وأخرى ظلية وثالثة ورقية، وتمثيلات يغلب عليها كونها لشخصين، نحن أمام سرد للقصص في المشاهد الوثائقية ومشاهد الحكاية الخيالية الممثلة في رحلة إدوارد (فيكشن)، وفي الوقت ذاته يبدو الخيالي والوثائقي متجانسين في تلقينا لهما كمشاهدين، لوفرة فائضة من الملذات التي لا يمكنك إلا أن تتمدد وتهيم في سمائها.
مشهد آخر لا يقل روعة وهو لقطة في سايجون حيث تتدفق الدراجات النارية وسط ازدحام في إحدى التقاطعات بصورة مبطئة على موسيقى يوهان شتراوس “الدانوب الأزرق” وتستمر اللقطات وكأنها رقصة، ويضع غوميز الصورة فوق الصورة، والكادر فوق الكادر بحساسية سينمائية فائقة، تخلق اللحظة السينمائية في العالم الحقيقي.
ما يحدث هنا بالضبط هو تتبع لعلامات السرد المحتمل في حكاية إدوارد، تتبع يضعنا نحن المشاهدين في موضع المرتحل، كما لو أننا نسافر لهذه الأماكن ونرسم هذه القصص ونعبر فيها بينما نتلقاها، وبذلك يصبح المشاهد مساهمًا يشارك في اكتمال الصورة، ولا يتم تلقينه نفسيًا أو عاطفيًا، لكن غوميز يقدم الإيماءات، ويدع المتلقي يكمل الفانتازيا الروائية، أي في الواقع الذي نشاهده والحكاية التي نسمعها.
أما النصف الثاني من الفيلم فهو أكثر خطية مقارنة بنصف الفيلم الأول، وينطلق من اعتراف إدوارد لراهب داخل إحدى الغابات عن أسباب جولته، وبعد أن أخرج ما في قلبه، استلقى تحت الأشجار، ليتغير ما نسمعه من حركة أوراق الشجر في الغابة إلى أصوات النورس، فتستمر هذه اللقطة بضعة لحظات، ثم يطير بنا الفيلم بعدها إلى البحر، حيث سفينة تحمل مولي من لندن إلى بورما، لتبدأ جولتها بحثًا عن خطيبها إدوارد.
هذا الجزء الذي يميل للسرد القصصي عند حكاية مولي، وعلى عكس مشاهد التي تبدو فيها الشوارع والحياة، تبقى مولي داخل ما يوحي بالاستديو السينمائي باعتباره موقعًا تدور فيه الحكاية ومنه تنطلق الحكايات الخيالية في السينما، ومع عدد أقل بكثير من اللقطات الوثائقية. يقدم لنا ذلك اعترافًا باختلاف الموقف الواقعي للحياة مقابل الموقف الخيالي للقصص، من دون أن يعطل الجانب الحسي، بل أنه يحقق هذا الخيال بنجاح بينما نشاهد مولي تقوم بالدور الذي كنا نقوم به كمشاهدين، تقف عند نقاط السرد في تتبعها لأثر إدوارد الهارب في صور وتقاطعات سينمائية ذات إيقاع شاعري كلاسيكي، يتخلله غموض ساكن في مرات، يذكرنا بسينما جاك ترونر، ونغمة جنائزية في غاباتها ومناظرها الضبابية كما لو كنا نعيش فيلمًا لميزوغوتشي، أجل يتحول كل شيء ليصبح أكثر انتماءً لسحر الخيال السينمائي، تمامًا كما كان في النصف الثاني في أفلام غوميز الأخرى “تابو” و“شهرنا المحبوب أغسطس“ Our beloved month of August، منفتحة على فكرة الرحلة التي تتوسع ثم تتمدد ثم تضيق داخل هذا الخيال.
يقول راهب نلتقيه في أوساكا “اترك نفسك للعالم وسترى مدى كرمه. “فيلم “جولة كبرى” أكرمنا سينمائيًا في كان، أدهشنا وسحرنا وذكرنا بقوة سينما المؤلف، وبالعوالم التي لا نجدها إلا في الحكاية السينمائية.
اقرأ أيضا: «نورة».. السعودية أنارت كان للمرة الأولى