يسهم تحديد الصنف السردي الذي ينتمي إليه فيلم ما في إحكام صنعة الفيلم ويضمن إلى حد كبير وصوله إلى جمهوره المستهدف في شباك التذاكر، وهو ما يفوت كثير من صناع السينما مع الأسف.
يحدد الصنف السردي أو النوع السينمائي Genre خط بناء القصة ومسارها ونوع اللقطات المستخدمة وإيقاع المشاهد وترتيبها وغيرها من القرارات الفنية التي تبدأ منذ لحظة كتابة القصة والسيناريو، كي يسير المنتج السينمائي في مسار واضح ومحدد يتماشى مع توقعات الجمهور. بالطبع لا يعني ذلك التقيد الصارم بنوع سينمائي واحد دون ابتكار أو مزج لأنواع سينمائية مختلفة، فالتداخل المدروس قد يضيف بُعدًا أكثر إبداعًا، مما يعزز دهشة الجمهور وارتباطه العاطفي بالفيلم. لكن المشكلة تنشأ عندما يكون النوع غير واضح، أو عند محاولة المزج بين أنواع متعددة بطريقة غير متماسكة، مما يؤدي إلى ارتباك السرد وتناقض الرؤية. في هذه الحالة، يجد المشاهد نفسه في حالة من التيه وفقدان التواصل، ويكون التفاعل حينها مع الفيلم ضعيفًا ويمر الفيلم بدون أثر، وهو الفخ الذي قع فيه فيلم «تشويش».
ينطبق على فيلم «تشويش» المثل القائل «خلط الحابل بالنابل» إذ جاء الفيلم من دون هوية واضحة أو متوازنة، متأرجحًا ما بين الحركة (الأكشن)، والغموض والتشويق، والكوميديا والدراما النفسية، مما أوقع الفيلم في أسلوب مربك ونبرة غير مستقرة بين الجدية والهزل. أضف إلى ذلك أن البناء الدرامي للفيلم جاء بشكل غير مترابط أو مقنع بتحولات درامية غير مبررة.
يدور فيلم «تشويش» الذي كتبه سعيد حسين الزهراني، وأخرجه أحمد البابلي، ما بين مدينة جدة السعودية ودولة قرغيزستان وتحديدًا في عاصمتها (بيشكك) إذ يتحتم على البطل خالد (عزيز بحيص) أن يسافر إلى دولة قرغيزستان لدراسة الطب على غير رغبة منه ولكن نزولاً على رغبة والديه الطبيبين.

يبدأ الفيلم في العاصمة القرغيزية بيشكك، في افتتاحية سريعة الحركة نرى فيها البطل يهرب وسط طلقات الرصاص، وبعد الإمساك به واصطحابه للتحقيق، يواجهه المحقق بسؤال عن مكان تواجد الأطفال؟ فيجيبه خالد بثقة: «افعلوا ما أريد وستجدونهم». بعد هذه الافتتاحية المشوقة، يعود بنا الفيلم لما قبل ستة أشهر في مدينة جدة، نتعرف فيها على البطل وصديقه وعلى سبب سفره للخارج، كما نتعرف على والد خالد ووداعه البارد لولده، ثم ننتقل من جديد في ترتيب زمني تصاعدي إلى مدينة بيشكك وبداية دراسة خالد وصعوباتها، وتعرفه على من حوله حتى يلتقي بطالبة من أهل المدينة تتحدث العربية لكون أمها مصرية.
على جانب آخر، في جدة، يواجه والد خالد معضلة أخلاقية عندما يعرف أن الأعضاء التي تأتي للمستشفى الذي يعمل به، هي أعضاء أطفال مختطفين تُسرق اعضاءهم وتباع للمستشفى. فيتحرك الاب للإبلاغ عن هذه الجريمة ويضع مستنداتها على ذاكرة متنقلة «فلاش ميموري» إلا أن المشكلة تتفاقم وتُقتل والدة خالد ويُختَطف أباه. وتصل مستندات الاب إلى خالد فيتعرض للملاحقة. في نفس الوقت، تتواصل مع خالد طفلة لا يستطيع أن يراها أحد سواه، تم اختطافها وتطلب منه مساعدتها ومساعدة بقية الأطفال المختطفين.
من المشكلات التي وقع فيها الفيلم وأثرت على تلقيه والتفاعل معه، مشكلة ضعف بناء الشخصيات وغياب منطقية الأحداث. فرغم محاولة الفيلم خلق حالة من التشويق والإثارة وشد انتباه المشاهد واهتمامه، إلا أنه تجاهل بناء الشخصية والحدث بشكل متأن. مفضلًا القفز بعد مقدمة بسيطة، كان يمكنه الاستفادة منها في رسم معالم شخصياته والتأسيس لما تمر به من تطورات.

غياب التمهيد للشخصية الرئيسية بالتحديد وإهمال العناية ببنائها؛ جعلها تبدو في حالة من الضعف وعدم المنطقية. إذ نجد البطل فجأة يتمتع بقدرة التحدث مع الموتى من دون تمهيد واضح لهذه القدرة. مما يجعل الصدفة هي المحرك للحدث الرئيسي والمهم بالفيلم، صدفة أن يكون هو دون سواه المرتبط الأساسي بالقضية من خلال والده، وهو نفسه بالتحديد من يمتلك القدرة على التواصل مع الموتى ويتمتع بقدرات فوق طبيعية، وليس هذا فقط، ولكن أيضًا معرفة الرقم السري الذي يحتاجه للولوج إلى المستندات التي خبأها أبوه، بل حتى معرفة المستقبل بشكل ما من خلال توجيهات شبح الطفلة المختطفة. كل هذا يحدث من دون تأسيس متين للعالم الذي من المفترض أن يتقبله المشاهد.
الفيلم كان بحاجة إلى وضع الشخصية داخل إطار وعالم يحتمل هذه الإمكانيات ويجعلها قابلة للتصديق. أما تقديم هذا الشيء بشكل اعتباطي وبدون مقدمات أو تدرّج، مع فرض الحلول الدرامية عبر شخصية غير حقيقة بالنسبة له، أو ميتة (كما سنعرف فيما بعد)، يكشف عن ضعف وقلة حيلة في إيجاد حلول للمعضلات السردية.
وهذا يقودني لمشكلة دمج الأنواع السينمائية التي بدأت بها المراجعة. إن محاولة صنع فيلم أكشن وإثارة على غرار سلسلة «جيسون بورن Jason Bourne» مع دمج أسلوب أفلام الممثل كيفن هارت مثل «المخابرات المركزية Central Intelligence» أو فيلم «اركب معنا Ride Along» بتقليد أدائه الكوميدي وأسلوبه في التمثيل، ثم إضافة عناصر الإثارة النفسية الممتزجة بالفنتازيا كما في فيلم «دوامة الصدى Stir of Echoes» أو «الحاسة السادسة The Sixth Sense» كل هذا قد يوقع الفيلم في فخ التشتت في البناء وفقدان التوازان.
تزداد هذه المشكلة تعقيدًا إذا لم يكن هناك بناء واضح للفيلم يحدد اتجاهه بدقة ويضمن ترابط شخصياته بشكل منطقي. فلو اكتفى الفيلم، مثلًا، بأن يكون فيلم أكشن وإثارة فقط، لربما تمكن، مع حبكة متماسكة، من تحقيق نتيجة مرضية على الأقل، دون الوقوع في فخ الثرثرة الفارغة التي لا تضيف شيئًا جوهريًا.

على سبيل المثال، في المشهد الذي يُقبض فيه على خالد وصديقه من قِبَل العصابة التي تسعى للحصول على المستندات، يحاول صديقه السخرية والاستهزاء من المجرم نفسه بالرغم من توجيه السلاح إليه. هذا التصرف قد يكون مقبولًا لو أن العلاقة بين الشخصيتين بُنيت منذ البداية على هذا النمط من التفاعل، وكان الجو العام للفيلم متسقًا مع هذه الكوميديا. لكن إدخال الفكاهة بشكل عشوائي وغير مبرر يجعل المشهد غير منطقي وأقرب إلى السذاجة. وهذا جزء من كل. أضف إلى ذلك، الحالة النفسية للبطل وما يمر به، إذ لم يكتف الفيلم بأن جعل الشخصية تمر بحالة نفسية لا نعلم سببها، ولكن حاول أن يجعلها مقدمة لقدرته على التواصل مع المفقودين أو الموتى. ومن هنا فالاشتغال العميق على الاضطرابات النفسية والحالة العقلية للبطل ضروري، وخاصة إذا كانت هذه العوامل تشكل دافعًا جوهريًا لتطور الحدث واكتماله. فالذهان والتشتت في التركيز، والأرق، والنسيان. كلها كانت عناصر صلبة كان لها أن تُبنى عليها الشخصية الرئيسية وتتشكل من خلالها بنية الحدث نفسه. لكن للأسف، ضاعت هذه الورقة مع غيرها وسط محاولات الفيلم لجمع كل شيء في عمل واحد، مما أدى إلى تشتت السرد وإضعاف الأثر الدرامي.
الشيء اللافت في الفيلم بالنسبة لي هو تصويره في منطقة جديدة لم أسمع عنها من قبل، وهذا ما دفعني للبحث عنها والقراءة أكثر حولها. فعلى الرغم من الضعف الواضح في التصوير وفي حجم اللقطات، إلا من حسنات الفيلم أنه نجح أن ينقل لنا بعض ما تحتويه المدينة من جمال وتضاريس طبيعية. حتى على مستوى المونتاج لم يستطع الفيلم أن يتجاوز مشكلة الانتقالات ما بين اللقطات التي لم تحدث بشكل سلسل وطبيعي، مما جعل القطع يبدو حادًا ومزعجًا للمشاهد. أضف إلى ذلك، الأداء التمثيلي المتكلف وغير الواقعي من معظم الممثلين، باستثناء الممثلة التي قامت بدور والدة الفقيدة التي يتواصل معها خالد. ولعل السبب يعود لضعف الحوار المباشر والبسيط جدًا، وابتعاده عن مبتعدًا عن القاعدة المعروفة «اظهر ولا تخبر» وكذلك ضعف بناء الشخصيات كما أشرت سابقًا، ساهم بالتالي في الحد من تأثير الأداء التمثيلي وجعل التفاعل بين الشخصيات يبدو غير مقنع.

فيلم «تشويش»
تعتبر تجربة سينمائية طموحة بشكل عام سواء على مستوى الموضوع أو من حيث المكان ومناطق التصوير، إلا أنه بالرغم من طموحه الواضح وقع في فخ إغراء دمج الأنواع السينمائية المختلفة، محاولًا حشدها جميعًا في عمل واحد، بدلًا من الالتزام بخط درامي واضح يحفظ تماسك السرد ويجنب الفيلم التشتت والضياع. ما أوقع الفيلم بالنهاية بما يطابق عنوانه في حالة من التشويش، جعلت رؤيته غير مستقرة وأفقدته وضوحه الفني والسردي.
اقرأ أيضا: محمد الطويان: رحلة فنية تتجاوز الزمن