العودة للكتابة عن فيلم من زمن الأبيض- أسود (الأبيض والأسود) تتطلب وضع الفيلم داخل سياقه الزمني، فلا يمكن الحكم على السينما في زمن استخدام الخام وكاميرات ضخمة الحجم صعبة الحركة، بنفس معايير زمننا الآن حيث يمكنك صناعة فيلم باستخدام هاتفك المحمول. رغم هذا فالكتابة النقدية عن فيلم “بين السما والأرض” للمخرج المصري “صلاح أبو سيف” -1959، يمكن أن تتم من دون حتى أن نتسامح معه بحكم صنعه في عالم يفتقر للإمكانيات التقنية لعالم اليوم.
هذا الفيلم تدور معظم أحداثه داخل مصعد عمارة سكنية في العاصمة المصرية القاهرة، يتعطل المصعد وتصبح الحكاية معلقة بأبطاله المحبوسين داخله. قوبل الفيلم بعدم تفهم وخيبة أمل في شباك تذاكر سينما الخمسينيات، ثم لقي نجاحًا مدويًّا عقب عرضه تليفزيونيًّا وباتت قيمته الفنية تزداد بمرور الزمن، حتى اختاره النقاد على هامش مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في عام 1996 في المركز 58 بين أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.
مؤدى هذه المقدمة سؤالين لا بد من طرحهما: ما هي قيمة “بين السما والأرض” في زمنه؟ وهل يمكن التعلم منه سينمائيًّا حتى اليوم؟
مكان واحد وطموح عالمي
يحكي المخرج المصري “صلاح أبو سيف” في محاوراته مع المخرج والناقد المصري “هاشم النحاس” أن فكرة الفيلم أتت من موقف حقيقي حدث له، حينما كان في طريقه رفقة زوجته الحامل لزيارة الطبيب، وفي العمارة السكنية التي توجد بها العيادة تعطل المصعد بهما، وظلا بداخله لمدة ساعة ونصف.
سيطر الخوف على أبو سيف وزوجته في البداية. لكن بمجرد خروجه، سيطر عليه الإلهام بصنع فيلم عن مجموعة من المصريين المحبوسين داخل مصعد معطل، ذهب أبو سيف بفكرته للأديب المصري “نجيب محفوظ” وطلب منه أن يحولها لسيناريو فيلم.
ظن أبو سيف وقتها أنه يصنع فيلم سيصل به للعالمية، فيلم مكان واحد وموقف إنساني صعب يمكن أن يتماهى معه البشر في كل مكان في العالم.
قبل عامين فقط من ظهور “بين السما والأرض” على شاشة السينما، صنع سيدني لوميت تحفته الأشهر “12 رجلًا غاضبًا” 12 Angry men، وهو الفيلم الذي ينظر إليه باعتباره مؤسسًا لسينما المكان الواحد، وتحول هذا الفيلم بعض ذلك ليصبح أشهر أفلام هذا النوع طوال تاريخ السينما، ربما كان هذا أحد أسباب طموح صلاح أبو سيف.
لم تكن النتيجة في شباك التذاكر على نفس قدر الآمال. يحكي أبو سيف أنه رأي أفراد من الجمهور يغادرون العرض الجماهيري الأول، وبعضهم هتف قائلًا “إيه القرف ده؟!”. لم يكن الأمر أفضل في عرض الفيلم لصناع السينما والنقاد، جلس أبو سيف حزينًا بعدها، وجال في شوارع القاهرة باكيًا ثم ظل في نقاشات مطولة مع رفاقه للوصول لسبب هذا السقوط.
بعد 10 سنوات، عُرِض الفيلم تليفزيونيًّا وتغير رد الفعل كليًّا، وبات الفيلم يزداد شهرة ويزداد عدد محبيه في كل مرة يُعرض فيها. رأي المصريون من بيوتهم فيلمًا مختلفًا، وتعلقوا بأبطاله وودوا إنقاذهم حتى قبل أن تصل الشرطة وقوات المطافئ (الدفاع المدني) في نهاية الفيلم.
بين الخطابة و”الميتا-فيلم”
حينما نعيد مشاهدة “بين السما والأرض” اليوم نتأرجح بين تقدير الفكرة وعيوب التنفيذ، بداية لدينا لحظة بداية مثالية تجمع شخصيات مختلفة: رجال ونساء، عجزة وشباب، لصوص وبهوات وخدم، أصحاء ومرضى “عضويًّا ونفسيًّا”، كل هذا يعد بحكاية شديدة الثراء، لكنه يصعب من صناعة الحبكة أيضًا. الحبكة هنا تختلف عن معظم أفلام المكان الواحد في أنها تتفرع لتصبح حبكات، لكل شخص داخل المصعد حكاية مختلفة، ولا يجمعهم شيء سوى أنهم محبوسون سويًّا، هكذا لا نجد حبكة مشتركة تتطور معها الشخصيات داخل الحكاية، على عكس “12 angry men” الذي تتصاعد معه حبكة مشتركة من نقاش يتشارك فيه أبطال الفيلم جميعًا.
هذا يصحبنا لمشكلة الفيلم الأهم، وهي الخطابة، نتيجة غياب التطور الطبيعي للحبكة المشتركة، يعتمد أبو سيف ومحفوظ على شخصيات داخل المصعد تتحدث بشكل خطابي ومباشر لإيصال أفكار صناع الفيلم، وتأتى كلماتها خليطًا بين الفخر الوطني ما بعد 1952 وبين الوعظ الديني والأخلاقي. نجد عبد السلام النابلسي في دور “البيه” نمطيًّا ككل البهوات في أفلام ما بعد 1952، ونجد خادم يتحدث عن الزمن الجديد، زمن المساواة والديمقراطية، ونجد رجل يتحدث باقتباسات دينية، بل ويتلو عند مواقف مختلفة آيات من القرآن.
كل هذا اللحظات الخطابية يمكن بالمناسبة أن تحدث في المجتمع المصري، لكن هل من الطبيعي أن تتجمع كلها في مصعد واحد في نفس اللحظة؟
على جانب آخر فالفيلم يمثل طموحًا مثيرًا للإعجاب لصنع “ميتا-فيلم” أي فيلم يدور عن محاولة صناعة فيلم، ومعه تصبح الحكاية مثيرة للاهتمام، ليس فقط على مستوى المحتوى ولكن على مستوى التنفيذ والقالب أيضًا.
تركيز الحياة في شريط سينما
أفضل ما يبقى من “بين السما والأرض” هو اعتصاره للحياة في مصر في زمن الخمسينيات، وتركيزها في شريط سينمائي تدور أحداثه ليس فقط داخل مصعد ولكن داخل شوارع القاهرة الحقيقية، من تتابع البداية الذي يوثق بشكل بديع ظهر يوم صيفي حار في مدينة القاهرة وكيف يخفف المصريون عن نفسهم سواء بالمشروبات الباردة أو صب الماء على رؤوسهم، مرورًا بلحظات بحث فتى عن المهندس المسؤول عن صيانة المصعد داخل ملعب نادي الترسانة، نشاهد ملعب كرة ممتلئ بعشرات الآلاف من الجماهير، ينسى الفتى ما يبحث عنه وينشغل بكرة القدم وسحرها، تبدو المدينة حية كما يبدو أهلها وهم مؤمنين بالفعل أنهم يملكون شوارعها وملاعبها، كما نرى التنوع العرقي بين سكان المدينة.
بمد الخط على استقامته يمكن رؤية الخطابية في الفيلم بشكل مختلف، فصلاح أبو سيف ونجيب محفوظ أدركا بشكل أكيد ما يفعلوه، ربما أرادا أن يقدما صورة طوباوية عن مصر في هذا الزمن، صورة لما يجب أن يكون، هكذا قاموا بتطهير كل ركاب المصعد تقريبًا من خطاياهم -عدا المليجي -، الجميع يعترف ويعتذر، الممثلة المتعالية التي قامت بدورها هند رستم التي تبدو في هذا الزمن أجمل من مارلين مونرو، تتحول عند الحاجة الملحة إلى ممرضة “بنت بلد”، والبيه يعتذر من العامل، وحتى المريض العقلي “قام بدوره بمسرحية شديدة عبد المنعم إبراهيم” ينزع معطفه الذي يتخفى فيه من أجل مساعدة المرأة الحامل كما يعتذر رب الأسرة لزوجته وأبنائه قبل أن يفارق الحياة.
ينادي الخادم “تحيا الديمقراطية”، ويطالب المريض النفسي بمجتمع تشاركي، تدعم الشرطة العالقين بين السما والأرض نفسيًّا وتقوم قوات الحماية المدنية بدورها في إنقاذهم، تكاد الأحداث تنتهي بتطهر مكتمل.
لكن أبو سيف ومحفوظ يخبرانا في النهاية أنهما مدركان لما يفعلاه، فبمجرد نزول أبطالنا للأرض يعود كل منهم لأصله، المتحرش يبدأ رحلة تتبع جديدة، والحرامي يسرق من جديد، وصناع السينما يفكرون في فيلم جديد يعتصر واقعهم وزمانهم في شريط سينمائي.
اقرأ أيضا: «أبيض – أسود» أم «أبيض وأسود»؟