فاصلة

مراجعات

«بن مهيدي» لـ بشير درايس.. معالجة سينمائية بعيدة عن التقديس

Reading Time: 3 minutes

يمكن القول إنّ كل نص سينمائي يمنح الوثيقة التاريخية حياة جديدة في بناء شرعية المعنى لدى المُشاهد، بعيدا عن إعادة تدوير التاريخ على أساس أنّه حقيقة مطلقة، كما أن الاشتغال على التاريخ وشخوصه المؤثرة يتيح إمكانية التفكير والانطلاق من معلومات نحو أفق فكري تغدو فيه السينما وسيلة لرصد الواقع والتاريخ بمختلف تمظهراته وخيباته وأهواله، بعيدا عن كل أشكال التقديس وسطوة الرقيب.

في الثورة الجزائرية طفت جدلية أولوية السياسي على العسكري وأولوية الداخل على الخارج، وتشكل صراعًا امتد لما بعد الثورة، أما في السينما فالجدلية ارتبطت حول نقل التاريخ كما هو أم لصناعها هامش حرية لمزج الواقع بالخيال، علما أن السينما خطاب مقارب للواقع يتحرك دائما ليقترب منه ويعتمد دائما عليه، ورغم تضارب الروايات بخصوص التاريخ الجزائري، خاصة بما ارتبط بشخصياته المؤثرة في مسار الأحداث التي عاشتها الجزائر قبل الثورة وأثناءها وبعدها، ولعلّ أكثر فيلمًا أثار الجدل حتى قبل رؤيته النور هو فيلم بن مهيدي للمخرج بشير درايس.

بن مهيدي

الكتابة السينمائية تنطلق من الملموس إلى المجرد، ومن الوثيقة التاريخية إلى الصورة ومن الصورة إلى الفكرة ومن الواقع إلى الرمز، وهو ما حاول المخرج بشير درايس من خلال فيلمه «العربي بن مهيدي» الذي شهد عرضه الأول مساء أول أمس بقاعة أوبرا الجزائر بوعلام بسايح، ملامسته عبر رمزية شخصية بن مهيدي، حيث أخرجه من تلك الدائرة التاريخية الضيقة والنمطية التي سادت حول شخصيته لسنوات طويلة.

بعد انتظار دام سنوات وسط قبضة حديدية بين المخرج والمنتج بشير درايس والجهات الإنتاجية الأخرى للفيلم ممثلة في وزارة المجاهدين وذوي الحقوق ووزارة الثقافة والفنون بسبب تحفظات سجلتها وزارة المجاهدين حول محتوى الفيلم، تم الإفراج عنه وإتاحته للجمهور.

هل يمكن أن ننتظر أكثر مما شاهدنا؟ أعتقد لا، لأن بشير درايس قدّم فيلما مقبولا جدا بالنظر لطبيعة الموضوع والشخصية المتناولة بعيدا عن نظرية التقديس، حيث حاول درايس من خلال الفيلم عكس أفلام السير الذاتية التي تم تناولها سابقا، ملامسة جوانب أخرى من الثورة ورجالاتها مثل الحب والخيانة والدسائس، كما ركّز على الصراعات السياسية التي كانت موجودة بين السياسي والعسكري وبين أولوية الداخل على الخارج الذي وصل لحد المشادات بين بن مهيدي وبن بلة وصراع الزعامة الذي أخذ أبعادا أخرى.

بن مهيدي

«بن مهيدي» امتاز بسلاسة السيناريو وتسلسل الأحداث التي كانت محكمة والتأسيس الجيد للمبررات الدرامية رغم وجود بعض الفراغات والهنات والمطبات السردية، التي يمكن تبريرها بسبب دخول مقص الرقيب بحكم عوامل عديدة بعضها معلومًا وأغلبها إكراهات إنتاجية تدخلت في سير العديد من الأحداث المفصلية داخل العمل، ما انعكس على مشاهد تبدو غير مفهومة في ظل غياب التأسيس لها.

بشير درايس كان ذكيا جدا من خلال الاتكاء على «كاستينغ» قوي جدا يتقدمهم خالد بن عيسى الذي أدى دور بن مهيدي بتمكن كبير وأعطى الأبعاد الحقيقية للشخصية بكل انفعالاتها وخصوصيتها دون تكلف، ناهيك باقي الكاست في صورة يوسف سحايري، ونضال الملوحي، ويونس مرابط، ومبروك فروجي وسمير الحكيم وفتحي نوري ومحمد فريمهدي وإيدير بن عيبوش وعصام خنوش ونصر الدين جودي وليديا لعريني والراحل حليم زريبيع وسهى ولهى ومبارك مناد وعلي زاريف وكل الفريق تقريبا، وهو ما أعطى ثقل أدائي لشخوص العمل، علما أن المخرج انتقل في عديد الولايات أثناء اختيار الممثلين لذلك نجد توليفة غنية من الأسماء التي تملك باعا كبيرا في مجال المسرح، جعلها تمسك بخيوط الفيلم وتغطي بقوة الأداء على الفراغات الموجودة للأسباب المذكورة أعلاه.

بن مهيدي

اللمسة السينمائية لكاتب السيناريو عبد الكريم بهلول تبدو واضحة عبر الحوارات التي كانت قصيرة عملية وبعيدة عن النمطية الموجودة في أعمال السير الذاتية في الجزائر المتسمة بالخطابية المباشرة، وفي أحايين كثيرة كانت لغة الصمت في الفيلم أقوى من أي جملًا حوارية، مع التنويه بجمالية الصورة في الفيلم التي أوكلت لمدير تصوير إيطالي استطاع قنص تفاصيل خدمت الفيلم بشكل كبير، دون التقليل من الجوانب التقنية الأخرى في العمل خاصة الصوت التي أوكلت مهمته لمهندس الصوت كمال مكسار الذي سبق له الاشتغال في العديد من الأفلام المهمة مثل “نهلة” لفاروق بلوفة و”عودة الابن الضال” ليوسف شاهين.

نرشح لك: «الشاهد الوحيد»: فيلم متوسط الجودة ضروري للصناعة!

شارك هذا المنشور