منذ عرضه في مهرجان كان السينمائي في دورته الماضية، بات اسم فيلم “بنات ألفة” يتردد في فضاء المهرجانات العربية والدولية، وتتعالى الآمال أن يصل إلى القائمة القصيرة للأفلام المتنافسة على جائزة الأوسكار فئة أفضل فيلم أجنبي ويتوج بها في مارس المقبل، بعد اختياره لتمثيل تونس.
إلى جانب كونه الفيلم العربي الوحيد الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي لعام 2023، هو أيضًا أحد الأفلام التي حصلت على دعم صندوق البحر الأحمر والفيلم الثاني لمخرجته الذي تختاره تونس لتمثيلها في مسابقات الأوسكار، فقد تم ترشيح فيلمها “الرجل الذي باع ظهره” للمنافسة على جوائز الأوسكار في 2021.
أول ما يلفت النظر في هذا الفيلم هو أنه يطأ مناطق ليست مطروقة سينمائيًّا، وهو ما يجعله مستحقًا للترشح ضمن قائمتين؛ فهو فيلم وثائقي يستند على قصة حقيقية ووقائع وشخصيات تتحدث عن تجربتها وأرشيف يعرض وقائع لشخصيات الفيلم وأحداث عايشوها. وهو أيضًا فيلم يتواجد به ممثلون وعلى رأسهم الفنانة هند صبري، وهناك مشاهد تمثيلية كثيرة في الفيلم أكثر من المعتاد في أفلام الدوكيو- دراما.
هو إذًا تجريب يستحق التأمل. الملفت أن المشاهد التمثيلية ينظر إليها كنقطة ضعف في الفيلم الوثائقي واعتبارها تقلل من مصداقية القصة. لكن هذا الفيلم حالة خاصة، تتلاءم طريقة السرد المختارة فيه مع قصته، وأزعم أن المخرجة كوثر بن هنية قد نجحت في مقاربة قصتها بهذا المزيج المتميز الذي استحقت عنه التواجد في أهم مسابقة لأهم المهرجانات السينمائية، واستحقت الترشح النهائي المنتظر ضمن الأفلام المتنافسة على جوائز الأوسكار.
منذ المشاهد الأولى التعريفية القصيرة للفيلم، نشعر أن أجواءه مختلفة، حيث نسمع صوت المخرجة تعرفنا بالشخصيات الرئيسية للفيلم: ألفة وبناتها، ابنتان منهما في المقدمة، تيسير وآية، نراهما أمامها ثم ابنتين أخريين خلفها هما رحمة وغفران، هاتان ابنتان أكلهما الذئب.
يعاد تعريف البنات بآية الرحمة وتيسير الغفران، وكأن البات كلهن كتلة واحدة تم قطعها إلى قطعتين. حيث تقف ألفة في المنتصف. عقلها مع البنتين الغائبتين وعينها التي لا تغمض خوفًا تركان على البنتين اللتين تقفان أمامها وتعيشان معها الآن. ثم نسمع المخرجة وهي تتأكد من ألفة أنها تدرك ما يحدث وكيفية عمل الفيلم: ستقوم ممثلة هي هند صبري كما نعرف لاحقًا، بتمثيل المشاهد التي يصعب على ألفة الحديث عنها.
بعد هذا نرى هند صبري وهي تستعد لتكون ألفة. إذًا نحن نرى كل شيء. القصة الحقيقية والمشاهد التي يصعب على الشخصيات الحديث عنها، وكأن المخرجة بذلك توثق طريقة صناعتها للفيلم، حيث نرى شخصيات الفيلم تحكي لها وأحيانا يطلب منها الممثلين إيقاف الكاميرا، وهو ما يزيد مصداقية القصة. فالمخرجة لا تلجأ إلى الإيهام ولا تحاول ذلك.
نحن نرى الممثلة تتدرب على كيفية تقليد الشخصية الرئيسية، فهي تحاول أن تكون مثلها، ما يجعلنا طوال الوقت نتذكر القصة الحقيقية والأشخاص الحقيقيين، وكأنها تعلن في كل لحظة: هذه قصة حدثت وليست تمثيلًا حتى وإن لجأت إليه.
وقد نتساءل: لم لجأت المخرجة للتمثيل ولم تكتف بالشخصيات الحقيقية؟
الإجابة تظهر لنا بعد مشاهدة الفيلم؛ وهي أن هذه القصة المليئة بالدراما والمفاجآت والتحولات كان لا بد لها من أن تكون حية أمامنا حتى ندرك أثرها؛ أثر الجهل والفقر على عائلة مكونة من سيدات أو من ألفة وبناتها… ألفة التي لم تكن تريد إنجاب البنات ولكنها “ابتليت” بهن أو هكذا كانت تشعر.
لكن هناك أثر آخر لا يقل أهمية عن هذا، وهو أن الشخصيات بهذه التجربة وقد عايشوها بشكل كامل، سنراهن مختلفات في نهاية الفيلم.
بداية هذا الأثر وأهمية التمثيل للشخصيات الحقيقية، تبدأ مع حضور الممثلتين نور كاروني وإشراق مطر اللتين تمثلان دوري رحمة وغفران. حيث نرى ما قصدته المخرجة. فما أن تحضران حتى تتعرف الأختان تيسير وآية عليهما، وتعرفان من ستكون رحمة ومن ستكون غفران ثم لا تملك ألفة نفسها من أن تبكي، وهذا سنراه بوضوح أكثر لاحقًا، فوجود الممثلتين وحضورهما المكاني والوجداني مع الشخصيات الحقيقية جعل العائلة تستعيد ماضيها بكل تفاصيله، بلحظاته السعيدة والمرة. وهو ما لم يكن ليحدث لو كان الفيلم عبارة عن ثلاث شخصيات يسردن قصتهن. لن تخرج مشاعرهن ولن يستطعن التعبير كما عبرن مع وجود شخصيات أخرى تذكرهن بكل التفاصيل، حيث الأم في لحظات تنظر للفتيات الأربع أمامها ثم تتحدث وكأنها ترى بناتها كلهن.
نشاهد ألفة تروي بعض التفاصيل ثم نشاهد المشاهد المتخيلة. ونرى تعليق ألفة على هند أحيانًا، وإرشادها لما كان يحدث بالضبط، ثم نرى هند أحيانًا وهي تعلق على ألفة وتوجهها في بعض الأمور.
تعايُش الشخصيات مع التمثيل والممثلات، ومع وجودهن كجزء من المشاهد التي تُمثَّل جعلهن يعبرن بكل طلاقة عن أدق التفاصيل في حياتهن، فهن في فضاء يسمح لهن بأن يكن على مسافة من الأشياء، وكذلك على قرب من مكمن الألم. فآية تذكر أنها كانت لا تحب أن تسمع اسم أختيها، لأن ألم الحديث عنهما وعن غيابهما أكبر من قدرتها على التعايش معه.
من الأمور الملفتة للنظر أيضًا، أن الممثلات ثلاثة، كل منهن لها شخصية. ولكن الرجال في القصة تم اختزالهم جميعًا في ممثل واحد فقط هو الممثل الرائع مجد مستورة، الفائز بالدب الفضي في برلين عن دوره في فيلم “نحبك هادي”، ولهذا دلالة كبيرة… فالتركيز كان طوال الوقت على ديناميكية العلاقة بين الأم وبناتها: الأم التي نشأت في بيئة صعبة فقيرة حيث النساء عرضة للعنف، وخوفًا من العار كانت قاسية وصارمة جدًا مع بناتها، خاصة وأنها وحيدة، ولكن الرجال كانوا في حالة البنات دائمًا مصدر البلاء، بدءًا من الأب الذي لم يشعرن يومًا بحنانه، وامتدادًا إلى كل الرجال الآخرين في حياتهن/ الفيلم، المسؤولين عن جر هذه العائلة من كارثة إلى أخرى حتى يصلن إلى نقطة اللاعودة.
الآداءات رائعة وملفتة، وكذلك السرد القصصي الذي يجعلك في حالة تساؤل حول ما حل بغفران ورحمة حتى النهاية. ثم هناك الكادرات الجميلة في التصوير، حيث يلحظ المشاهد بعد فترة أن ما قد يبدو شيئًا عفويًا وبسيطًا، هو عمل مرسوم بعناية شديدة في كل تفاصيله. كذلك الموسيقى التي كانت تعطي جوًا بقرب حلول كارثة. فنحن منذ البداية نعرف أن النهاية مأساوية ولكننا لا نعرف نوع المأساة.
هذا النوع من السرد ومحاولة استكشاف المساحة الفاصلة بين الوثائقي والروائي ليس التجربة الأولى لمخرجته، فقد كان فيلمها الطويل الأول “شلاط تونس” تجربة مختلفة أيضًا، ومحاولة لقراءة المجتمع التونسي والتحول الذي طرأ عليه من خلال شخص ظهر بعد فترة من الثورة التونسية، وأصبح يتعمد أن يصيب النساء بآلة حادة. لكنها منذ فيلمها الأول وصولاً إلى فيلمها الخامس “بنات ألفة”؛ لم تقدم عملًا يشبه الآخر، ولم تكن يومًا تشبه أحدًا سوى ذاتها. فهي، كما يبدو، من المخرجين المهمين اللذين يبحثون عن قصة جميلة ثم يجعلون القصة تخبرهم ما هي الطريقة الأفضل لسردها سينمائيًّا.
اقرأ أيضا: “كذب أبيض”… تخليص الحقيقة من ركام الصور والتضليل