فاصلة

مراجعات

«بلاش تبوسني»… تلك الازدواجية غير النظيفة

Reading Time: 8 minutes

في نهاية الفيلم الأيقوني «سينما باراديسو» للإيطالي جوسيبي تورناتوري، يجلس الكهل سلفاتوري في واحدة من قاعات السينما، ليشاهد بروح الطفل توتو الذي كانه قبل سنوات طويلة، مجموعة المشاهد المجمعة في علبة صغيرة من قبل ألفريدو؛ صديقه العجوز الذي رحل تاركا له هذا الميراث الوحيد والخالد؛ مجموعة القبلات والمشاهد المحذوفة من الأفلام التي كانت تعرض في سينما باراديسو، حين كان ألفريدو مسؤول كابينة العرض فيها، وكانت الرقابة وقت الفاشية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية تمنع عرضها من باب المحافظة على الأخلاق العامة والتدين الظاهري، وذلك قبل إدراك المجتمع الإيطالي أن الفاشية السياسية وتمثلاتها الدينية والاجتماعية هي سبب انهياره وفشله وانحداره الحضاري، لتبدأ موجة حداثية جديدة عقب الحرب بهزيمة إيطاليا المستحقة.

من الصعب لمن شاهد سينما باراديسو أن يتجاهل الإحالة أو التوازي ما بين مشهد النهاية العظيم الذي تصاحبه موسيقى إنيو موريكوني، وبين افتتاحية الفيلم المصري بلاش تبوسني (كتابة وإخراج وإنتاج أحمد عامر بالمشاركة مع دينا فاروق ووائل عمر- 2018).

في افتتاحية الفيلم المصري الساخر، يقدم لنا عامر مجموعة جميلة من أرق وأفخم مشاهد القبلات في السينما المصرية، والتي بالمناسبة شاهدناها جميعا في أوقات كثيرة خلال عقود سابقة على شاشة التليفزيون، قبل أن يطفو على سطح الصناعة دعاوى المصطلح الهدام الذي أسيء توظيفه في الربع قرن الأخير والمعروف بـ«السينما النظيفة».

وكما استغل الإيطالي الكبير حكاية دار العرض الكلاسيكية في البلدة القديمة ليختصر من خلالها جانبًا كبيرًا من تاريخ إيطاليا الجديدة عقب توحيد البلاد، وخلال فترة صعود الفاشية وما بعدها؛ استغل المخرج المصري أزمة القبلات – أو الحرب عليها بالأحرى-، ودعاوى السينما النظيفة، وظاهرة حجاب الفنانات، لكي يرصد أو يحلل أو يطرح ما هو أبعد من المشكلة الثقافية أو الفنية الحساسة، استغلها كي يطرح بجرأة وبأقل قدر من المباشرة سؤال الازدواجية اللعينة، والتي تعد واحدة من أكثر الآفات الحضارية التي تأكل ما تبقى من بدن الحداثة المصرية.

بلاش تبوسني
بلاش تبوسني (2018)

ثلاثة أزمنة للحكي

 يحاول المخرج التسجيلي الشاب وائل عمر صناعة فيلم عن القبلات في السينما المصرية، فيقرر تصوير كواليس أول افلام صديقه تامر تيمور الذي يقوم بدوره محمد مهران، إذ يحوي سيناريو الفيلم مشهد قبلة، وهو السيناريو الأخير الذي كتبه واحد من كبار الكتاب قبل موته، ومنحه للشاب كي يكون أول أعماله السينمائية.

ونتيجة لأنه لا توجد ممثلات كثيرات يمكن أن يوافقن على أداء القبلة في الأفلام خلال السنوات الأخيرة، يلجأ تامر إلى نجمة صف ثان تلعب دورها ياسمين رئيس، ومنتج مبتذل يلعب دوره بطرس غالي، من أجل تمرير مشهد القبلة، ولكن النجمة فَجر – والجناس مقصود بالطبع مع صفة الفُجر، بل انهم يداعبونها ب(فجُّورة)- هي ممثلة إغراء صريح وصاحبة فيلم «أنثى في الظلام» تنتابها فجأة هيستريا التوبة، بناء على حلم غريب تراه بشكل متكرر، وتقرر بعده أن تمتنع عن اداء مشاهد القبلات، بل وتتحجب، وتقدم أدوار تليق بهيئتها الجديدة.

بلاش تبوسني (2018)
بلاش تبوسني (2018)

يبني عامر فيلمه انطلاقًا من ثلاثة أزمنة، الأول هو حاضر تصوير الفيلم، وتحديدًا كواليس إعادة مشهد القبلة الذي ترفضه فجر، والثاني هو الماضي الذي يتم استدعاؤه بصورة متكررة، لتأصيل مبدأ الازدواجية لدى الشخصيات، خصوصا فجر وأمها والمنتج، مرورًا بمجموعة عمل الفيلم ككل، والزمن الثالث هو زمن اعتباري داخل الفيلم التسجيلي نفسه، حيث يقوم المخرج الشاب بتتبع الشخصيات في البلاتوه والبيت والشارع لكي تتحدث عن أزمة مشهد القبلة وكيف كنا ولماذا أصبحنا.

بلاش تبوسني (2018)
بلاش تبوسني (2018)

تتيح الأزمنة الثلاث التي اختارها عامر كإطار للسرد مساحة حرة للحركة دون قيود في البناء أو الدراما، نحن أمام ما يشبه نوع genre «الموكيومنتري»؛ أي مواد روائية أو خيالية تأتي في صورة تسجيلية أو وثائقية – ومن أشهر أعمال هذا النوع «هذا فريق سباينل تاب This is Spinal tap» للأمريكي روب راينر. ولكن الأهم من توصيف النوع هو مدى تلازمه العضوي مع الموضوع، أي هل يبدو شكل الفيلم مندمج عضويا مع فكرته وقصته!

بلاش تبوسني (2018)
بلاش تبوسني (2018)

على ما يبدو أن اختيار عامر لهذا الشكل هو اختيار ذكي وجذاب في نفس الوقت؛ فالقضية سواء ظاهرها المتمثل في مسألة القبلات والسينما النظيفة، أو باطنها الأعمق وهو سؤال الازدواجية، تحتاج إلى قدر من المباشرة والخوض في النقاش أثناء طرحها، وهو ما تكفل به زمن الفيلم التسجيلي الذي جمع اللقاءات والحوارات والنقاشات التي تمت على أكثر من مستوى، حتى وصلت إلى ظهور المخرجين محمد خان وخيري بشارة نفسيهما، إذ يظهران في الفيلم بشخصياتهما كاثنين من كبار مخرجي جيل ما يعرف بالواقعية الجديدة وهو الجيل الذي ظهر في بداية الثمانينيات، وشكل مصدر إلهام قوي ومانفيستو ثوري عظيم لكل الأجيال السينمائية الجادة التي جاءت بعده. بينما أتاح القفز الحر إلى الماضي والتذكير بمواقف الشخصيات السابقة وتاريخها المغاير لحاضرها فرصة ذهبية لتأصيل سؤال الازدواجية المريضة التي هي يقدمها الفيلم باعتبارها الأزمة الأعمق والأكثر تأثيرًا.

بلاش تبوسني (2018)
خيري بشارة ومحمد خان

يمكن القول أيضًا إن تعدد أزمنة الحكي ساهم بشكل ناضج ومريح في خلق مساحة العبث والكوميديا السوداء التي لونت الفيلم من دون ابتذال أو خطابية، فالازدواجية كمرض اجتماعي وحضاري هي نتاج حالة عبثية من التناقضات، وفقدان البوصلة، وغياب الرؤية والوضوح والضمير والمصارحة والاستقامة الذهنية، وكلها عناصر تفتقدها شخصية فجر – كبطلة محورية يفجر رفضها للقبلة بحجة (الرؤيا الغريبة) وعلاقتها بالداعية الشاب أزمة الفيلم بمستوياتها المتعددة، سواء السينمائية أو الاجتماعية. وفي نفس الوقت تتسبب الازدواجية في حالة ضخمة من العبث والتوهان التي تجعل أي شخص يحاول الثبات على موقفه كأنه يدور بين أكثر من «شِمال»، لا يدري أي الجهات أصوب أو أدق، وهو ما يتجلى في مشهد انتقال تامر بين قنوات التلفزيون التي تعرض واحدة منها فجر وهي بالحجاب تقدم برنامج طبخ تافة، وبين مشهد ساخن لها وهي ترقص وتقبل البطل قبل الحجاب في أيقونتها «أنثى في الظلام»!

في رؤياها التحذيرية كما يصفها الداعية الشاب، ترى فجر نفسها تسير عارية باتجاه محطة بنزين (بنزينة بالتعبير المصري الدارج) وهناك ترى امرأة غريبة الشكل تقف لكي تقوم بتموين سيارتها، وتصبح هذه المرأة هي نذير التوبة التي تنتظرها كما يفسرها الداعية.

يبدو اختيار محطة البنزين – بدلالة الاشتعال والاحتراق- وسياق الحلم كله؛ جزء من حالة العبث التي تشكل وجدان الشخصية، وهو بالمناسبة وجدان شديد السطحية والسذاجة، خاصة لو قارنا مشهد حلم (البنزينة) بمشهد استعادي لتامر وهو يحاول ان يشرح لفجر أبعاد شخصية البطلة في الفيلم، بينما هي كل ما يشغلها لون قميص النوم الذي سوف ترتديه في المشهد، ومستوى فتحة الصدر، لأن هذا في رأيها (الفني) أهم ما للدور ومحور صراع الشخصية مع زوجها العاجز أو المتوعك جنسيًا – يمكن هنا أن نشير إلى أن عنوان فيلم تامر هو «السراب» وهو نفس عنوان الفيلم المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ الشهيرة التي يعاني فيها البطل من عقدة جنسية نتيجة سيطرة أمه عليه، بينما بطل فيلم تامر الذي يحمل الاسم نفسه يعاني أيضًا من عجز ما، ولهذا تبدو القبلة مهمة في إشعال نار الرغبة مرة أخرى في جسده، لكي يعوض هزيمته وإحباط زوجته التي تقدم فجر دورها.

بلاش تبوسني
بلاش تبوسني (2018)

يحلل الفيلم ازدواجية شخصية فجر انطلاقًا من كونها غير مؤطرة بأي قدر من الثقافة والموهبة وفهم فلسفة الفن أو خبرات العمل الإبداعي، هي مجرد فتاة جميلة دفعتها أمها دفعًا كي تستغل جسدها في محاولة الصعود على سلم الشهرة في زمن يمجد التفاهة والابتذال.

وبالتالي صارت فجر شخصية متطرفة في علاقتها بالمهنة التي تمارسها، يشغلها قميص النوم ومساحة فتحة الصدر عن دراسة أبعاد الشخصية وتكوين وجهة نظرها الخاصة عنها قبل التصوير.

وبالتالي نجدها تبالغ في العري والإغراء وتقديم أعمال مسفة ورخيصة، ثم بمجرد أن ينتابها حلم «بنزينة التوبة» تبالغ في إظهار (التدين والتوبة) دون أن يكون هناك مانع من تقديم أعمال تناسب (الشكل الجديد)، ولما كان وعي فجر باهت ومحشو بالفراغ والسطحية، فإن ما يهمها هو أن تتناسب أعمالها القادمة مع (شكلها) فقط، لأن الشكل هو ما ترصده رؤياها القاصرة لكل الأمور في مهنتها القائمة بالأساس في فلسفتها على العمق والجوهر والروح قبل أي شكل أو هيئة.

«أهم حاجة في الشخصية شبشبها» 

هذا هو الشعار الذي يرفعه بطل فيلم السراب الشاب الذي يتعرض للرفض المستمر من قبل فجر لتقبيلها، بينما يحاول أن يتغلب على هذا الرفض باستحضار أرواح الممثلين العظام لكي يشحن طاقته التمثيلية (الخارقة)، حتى من لا يزال منهم على قيد الحياة – يحرجه مخرج الفيلم التسجيلي في مشهد طريف عندما يذكره أن واحد من الممثلين الذي ذكر أسمائهم باعتبارهم راحلين لا يزال حيًا، مما يظهر ضحالة ثقافته السينمائية وكونه مجرد لسان بلا عقل أو ذاكرة او موهبة.

شخصية مصطفى بطل الفيلم الشاب، الذي يرى أن أهم شيء في تقديم أي دور هو ارتداء الشبشب المناسب للشخصية (الخف المنزلي باللهجة المصرية) يعتبر الوجه الآخر لشخصية فجر، والتي ترى أن أهم ما الشخصية هو لون قميص النوم وفتحة الصدر! والتي كان اعتراضها على القبلة قبل رؤيا «البنزينة» منصبًا على كون مصطفى ثقيل الدم والظل، وأنها تحتاج إلى شاب «كيوت» وجذاب لتقبله بشكل واقعي في التصوير.

وكلاهما مصطفى وفجر نموذج للسطحية والرداءة التي وصل إليها حال الصناعة في مجملها – مضافًا إليهما شخصية المنتج صاحب الأعمال الجليلة مثل القلب الطري وخدني تحت الكنبة، والذي تنازل «إبداعيا» عندما قرر أن يلغي مشاهد الفرح الشعبي والراقصة اللذان يمثلان بصمته الأساسية كمنتج في كل فيلم من تمويله-.

هناك أيضًا تفصيلة هامة وهي الفارق الكبير بين مشهد الاغراء والتقبيل الذي يعرضه عامر لـ فجر في فيلمها «أنثى في الظلام» وبين مجموعة مشاهد القبل و«الإغراء» التي يتضمنها الكليب الساحر في بداية الفيلم، والذي يجمع عدد من قبلات ومشاهد الأفلام المصرية الكلاسيكية، فهناك إصرار ماكر على إحداث مقارنة بين كون الماضي أكثر رقة ورقيًا واستيعابًا لطبيعة الفن الذي يقدمه، وبين كون الحاضر يرى في إتاحة هذه المشاهد وسيلة للترويج والشهرة وإبراز مواهب (التضاريس البشرية) وليس الجانب الأثيري في فن التشخيص.

محمد خان وسلوى محمد علي

 يتفرق دم شخصية فجر بين ثلاثة من أنماط الممثلات اللائي شكلن ظاهرة الفنانات المعتزلات في مصر خلال العقود الأربعة الأخيرة، منذ أن بدأت ظاهرة اعتزال الممثلات على يد الدعاة، ومع صعود نجم التطرف الديني في مصر منذ منتصف السبعينيات، فتارة نرى جانب من حنان ترك وتارة من شمس البارودي وأخيرًا صابرين، الأولى في تطرفها الشديد تجاه كل ما قدمته قبل ذلك والثانية في رغبتها شراء الأفلام التي شكلت تاريخها الفني، والثالثة في كونها استخدمت فتوى أن الباروكة شكل من أشكال الحجاب طالما أن الشعر الذي تحتويه يغطي شعرها الأصلي. عادت صابرين وخلعت الحجاب تمامًا فيما بعد.

لكن لا يبدو فيلم بلاش تبوسني معنيًا بنقد أي من هؤلاء الممثلات، صحيح أنه استنسخ فجر منهن، لكنه مجرد استدعاء، كما يستدعي فعل الأمر في العنوان – والمأخوذ من شطر في أغنية عبد الوهاب الشهيرة من كتابة حسين السيد- يرغب في إثارة علامة تعجب صريحة في ذهن المتلقي! 

علامة يشغلها الحاضر والتاريخ، والظاهر والمخفي ضمنيًا في المجتمع المصري، والذي أصيب بتشوهات مرعبة خلال نصف القرن الأخير، انطلاقًا من أزمة قد تبدو أقل من عادية ولا تشغل أحدًا سوى أطرافها، ففي مشهد حيوي يقوم مخرج الفيلم التسجيلي بعمل لقاءات مع الجمهور خارج السينما عقب عرض فيلم «السراب»، لنرى تباين ردود أفعال الجمهور على القبلة التي لم تتم أصلا. حيث تم تصويرها وفجر ومصطفى متباعدين وتركيبها في المونتاج- هذه اللقاءات تعكس بشكل حقيقي جانبًا مهمًا من نظرة الجمهور ليس فقط للسينما والأعمال الفنية، ولكن كذلك لطبيعة ومستوى الوعي وسيكولوجية التلقي لدى المشاهدين والتي تتنوع ما بين التجاهل أو الاستخفاف أو الرغبة في فرض الفضيلة، إذ يرى بعض أفراد الجمهور أن لديهم استحقاق بالإشارة لكونها غائبة، وأن على صناع الأفلام مراعاتها بشكل بديهي ومُلزم.

 يمكن النظر إلى تجربة بلاش تبوسني على اعتبار أنها وثيقة نافذة الرؤية، تدقق بإمعان طريف في قضية هامة تخص الجانبين الفني والاجتماعي، بل إنها يمكن أن تفسر ظواهر سابقة لها وتالية عليها، متصلة عضويًا بحقيقة الأزمات التي تناولها الفيلم، ويكفي أن ننظر إلى أزمة الفيلم المصري «الملحد»  لمحمد العدل وإبراهيم عيسي ومنعه من العرض، على ضوء سخرية «بلاش تبوسني» لتتجلى لنا مسألة الازدواجية وتعريف «النظافة الفنية»، وفوضى استحقاق الفرض المجتمعي لفضائل غائبة، لا عن تدين او حكمة، بل عن جهل وضحالة وقلة وعي وغياب ثقافة التحضر وتعدد الأراء.

اقرأ أيضا: وحيد حامد يتذكر (5): كاتب السيناريو والسياسة والمجتمع

شارك هذا المنشور