سينما صوفيا كوبولا (1971) مليئة بـالسجون الزجاجية، سجون تسكنها نساء في العادة. بعيدًا عن وسائل الراحة الكماليات التي يتنعّمن بها، يشعرن بأنهن محبوسات، مرهقات، محبطات، يعانين من ثقل الشهرة والعلاقة غير المتكافئة مع الشريك الغائب في معظم الأحيان.
كانت باكورتها “انتحار العذراوات” (1999) أفضل أفلامها، و”ماري أنطوانيت” (2006) أكثرها جرأة، و”سقط في الترجمة” (2003) أكثرها شهرة، و”المسحورات” The Beguiled أكثرها مللًا. هذا الملل النموذجي الذي يطبع حياة بطلات كوبولا، يظهر مرة أخرى في فيلمها الجديد “بريسيلا” (2023).
نحن هنا أمام قصة أخرى من قصص نساء ضجرات عالقات في عالم من الامتيازات. ومرة أخرى نشاهد شخصية ضائعة، مهجورة، محبوسة في عالم ذكوري وقصر فخم للغاية. الفيلم المقتبس من كتاب “إلفيس وأنا” الذي نشرته زوجته بريسيلا بريسلي عام 1958، ويحكي لنا قصة بريسيلا من البداية حتى الطلاق من وجهة نظرها فقط.
تلتقي ابنة الضابط العسكري الأميركي بريسيلا آن واغنر (كايلي سبيني) البالغة 14 عامًا فقط، بإلفيس بريسلي (جاكوب إيلوردي) الجندي في ألمانيا الغربية حينذاك. تبدأ العلاقة العذرية بطريقة غير عادية: صغيرتنا مفتونة وبداخلها شعور متفجّر. تبقى العلاقة عذريةً لسنوات يعود فيها إلفيس إلى الولايات المتحدة وإلى عمله، بينما تكمل بريسيلا المدرسة. تزوره في بيته خلال العطلة الصيفية، إلى أن تنتقل أخيرًا إلى غريسلاند. هنا تبدأ الخطوبة الطويلة غير المعلنة، ثم الزواج، والجنس، والعنف، والحبوب والأدوية والعقاقير ثم… الإساءة المنهجية. يحاول ألفيس بشكل منهجي تأكيد سلطته ورجولته، محاولًا تشكيل هيئتها وشعرها وهندامها وشخصيتها حسب رغبته. يعاملها ككلبه الأليف الذي يداعبه في أوقات الفراغ قبل أن يطير إلى جولاته الصاخبة وحفلاته، ونسائه الأخريات. تعيش بريسيلا حلم الحب الذي يستحيل سجنًا. ومن البراءة إلى النضج، ككل بطلات صوفيا المحاصرات؛ تراقب بريسيلا، تجمع المعلومات، تنتفض، تتحرّر، لتنطلق بنفسها.
يفرض فيلم السيرة الذاتية هذا قواعد سينمائية شكلتها كوبولا بنفسها لتخدم قصصها: قبل أن تقول أي شيء، تُظهر لنا كل شيء. يتقدم فيلم “بريسيلا” على الشاشة مثل سلسلة مضطربة من اللوحات الملونة، حيث يتوتر الحب ويرتاح على الإيقاع الذي تحدده المشاكل الشخصية والحفلات والأصدقاء والإفراط في تناول الحبوب وغياب إلفيس.
شخصية بريسيلا في الفيلم مبهمة إلى حد ما، تعتمد فقط على ما يفعله أو ما لا يفعله ألفيس وتعيش في انتظار وصوله وأذوناته. هذا المحو لشخصية بريسيلا يحوّل الفيلم إلى سرد يسبح في الفراغ. بريسيلا لا تفعل شيئًا، لكن يبدو أيضًا أنها لا تريد أن تفعل أي شيء غير أن تكون مع إلفيس. وهذا هو العنصر الأكثر فضولًا وإحباطًا في الفيلم. على الرغم من أنّ الفيلم يتحدث عن بريسيلا، إلا أنه يبدأ أو ينتهي بوجود أو غياب إلفيس.
خارج تلك الفجوة، يعمل الفيلم بالإيقاع والأوضاع التي اعتدناها في سينما صوفيا كوبولا. لكن المشكلة أنّه يصبح مكشوفًا لأنّه يتجنّب أو ينكر ماهيته، بمعنى أنّه لا يريد أن يكون فيلم سيرة ذاتية، ولا سردًا ميلودراميًا، ولا بيانًا نسويًا، ولا إدانة لإلفيس. لكن على الرغم من الجهود المبذولة، ينتهي الفيلم بأن يكون كل هذه الأنواع معًا، موجهًا إدانة لـ”ملك الروك” لكن على استحياء.
على أي حال، “بريسيلا” فيلم جيد الصنع، مُغرٍ، قدمت فيه كوبولا قصة بريسيلا بكثير من الصدق والأمانة. فيلم لا يبني ابطالًا وأشرارًا يمكن التعرف إليهم بسهولة، ويصعب التواصل مع ما يقترحه أو معرفة توجّهه. لعلّ الفجوة الكبيرة التي تحد من إمكانياته التعبيرية تكمن في أنّ كوبولا في مكان وبريسيلا في مكان آخر. الأخيرة عبارة عن لغز داخل لغز داخل لغز كأنّنا أمام دمية ماتريوشكا. لهذا السبب، فنهاية بريسيلا في الفيلم ليست مستحقّة، فنحن لم نرَ الطريق التي أفضت إلى تحرّرها وتحقيق استقلاليتها خارج سطوة إلفيس. تتعرض الشابة المراهقة للعنف العاطفي والنفسي والمعنوي من زوجها ومن ثم تقرر المغادرة. لم نرَ أصغر صراع في عينيها، ولا الشعلة البريئة التي انطفأت، بل رأينا فقط كيف سرّحت شعرها الذي أصبح أكثر كثافة. أما كوبولا، فعلى الرغم من صورتها الجميلة، ولمستها الانطباعية، إلا أنّ قرار تغميق الشاشة بسبب حالة بريسيلا الكئيبة يتناقض مع مناخ الخمسينيات الملونة، بحيث لم يخدم الفيلم أبدًا.
إلى اليوم، لدينا فيلم “إلفيس” الخاص بالأب الذي أخرجه باز لورمان العام الماضي، فيلم باذخ بصريًا أخبرنا قصة أسطورة الروك الأميركي. والآن يأتي الفيلم الخاص بالأم. وربما ننتظر الفيلم الخاص بالابنة في المستقبل؟!
لا بد من الإشارة هنا إلى أن بريسيلا بريسلي هي المنتجة التنفيذية لكلا الفيلمين، وهذا يعني أن الفيلمين والعمل عليهما في جميع الوثائق واختبار الملابس وصور العائلة، عملية جرت على يد شخص واحد. كأن بريسيلا بريسلي تريد إخبارنا ما تريده هي فقط، وتخفي ما لا يجب أن يقال. يعرض فيلم “بريسيلا” اختلافات مع فيلم لورمان، أهمها أن فيلم كوبولا لا يحتوي على أي أغنية يؤديها إلفيس، فالشركة المالكة للأغاني لم تسمح لكوبولا باستخدامها. وهذا يأخذنا إلى الأغنية الأخيرة في الفيلم “سأحبك دائمًا” لدوللي بارتون. لم نفهم تمامًا سبب اختيار هذه الأغنية، مما يزيد من حالة التناقض في الفيلم. إنهاء فيلم عن علاقة سامة بهذه الأغنية، يؤدي إلى ضياع آخر قبل إضاءة الصالة. ضياع يلخّص شعورا لمتلقّي في الفيلم: هل يجب أن ننظر إلى بريسيلا كضحية لا حول ولا قوة لها أم امرأة متمكّنة ومتحرّرة؟
اقرأ أيضا: “الصبي ومالك الحزين”… وصيّة “ميازاكي” بالجري وراء الخيال