في فيلمه الروائي الطويل الرابع “المطبخ” يعود المخرج المكسيكي ألونزو رويز- بالاسيوس صاحب “فيلم بوليسي” و”متحف” و”جيروس” بفيلم جديد يشارك في المسابقة الرسمية لبرلين ـ74.
في جديده، يمكن ملاحظة بعض من المواضيع التي انشغل بها في أفلامه السابقة مثل العنصرية والطبقية، لكن هذه المرة، لا تدور الحكاية في المكسيك، بل في مطبخ مطعم مشهور في ميدان التايم سكوير في نيويورك.
نبدأ الحكاية مع إستيليا، الشابة المكسيكية ضئيلة الحجم، التي تذهب إلى الباب الخلفي للمطعم بحثًا عن بيدرو، إذ قيل لها إنه سيجد لها عملًا في المطعم الذي يعمل به. قبل أن تدخل نراها تنظر إلى قطعة بيتزا تُسحب من بين أكياس القمامة مع صوت فأر. ربما تبدو تلك المقدمة ملائمة تمامًا لعالم الفيلم، إذ يمكن تشبيه شخصياته بالفئران الباحثة عن قطعة طعام في القمامة، تكتفي بها، ويكون أقصى أحلامها أن لا يطاردها أو يشاركها أحد في لقمتها البسيطة.
تدخل إستيليا إلى المطعم، متسلحة بثقتها بنفسها وخبرة سنتين في الطهي، ومعرفتها ببيدرو؛ السبب الذي يمنحها ربما كل تلك الثقة. يرشدها أحد الطباخين إلى موظف الموارد البشرية، ويخبرها أن تنتظره، فتجلس على دكة خشبية إلى جوار امرأة مكسيكية أخرى تتحدث معها وتخبرها أن لا أحد يقابل المسؤول من دون ميعاد مسبق. رغم ذلك، تدخل إستيليا، بسبب نداء الموظف عليها، متصورًا أنها إمراة أخرى، وبالصدفة يتم تعيينها من دون تلك الشروط.
مع إستيليا ندخل إلى المطبخ الكوزومبوليتاني بقدر نيويورك، إذ تتعدد أعراق وجنسيات العاملين بين أفارقة وأوروبيين وآسيويين وأمريكيين شماليين وجنوبيين، ويتخصص كل منهم في إعداد صنف من الطعام، بينما تتحرك المضيفات بسرعة مماثلة لأخذ الطعام إلى صالة المطعم، حيث يجلس الزبائن في انتظار طعامهم، من دون علم بذلك العالم الخفي النابض بالحياة والذي تفصله دقيقة على الأكثر من مكانهم. اسم المطعم ذاته “ذا جريل” أو “الشواية” ربما يعبر عن حالة الطعام أو عن الحالة التي يوضع فيها طاقم العمل في أوقات الذروة وفي أوضاعهم الحياتية، كمهاجرين يحاولون توفيق أوضاعهم من دون أن يتعرضوا للترحيل قبلها.
سيناريو الفيلم مبني على مسرحية للكاتب الإنجليزي أرنولد ويسكر بنفس العنوان، وتدور أحداثها في لندن، ولكنه يُذكِّر أيضًا بحكايات جورج أورويل في كتابه الأول البديع “متشرد بين لندن وباريس” عن عمله في مطابخ باريس والزبون الذي يتخيل ذاته يأكل طعامًا أُعد خصيصًا له في مطبخ نظيف للغاية، بينما وصفه للمطبخ يثبت أن ما يدور في أدمغة الزبائن مجرد تخيلات ربما يختلقونها لأنفسهم لتبرير إنفاق المال، أو للإحساس لبعض الوقت أنهم يُعاملون معاملة خاصة.
موضوعان يركز عليهما المخرج طوال الفيلم: تصوير يوم كامل في حياة هؤلاء العاملين بالمطعم، وحبكة بوليسية هامشية عن مبلغ مسروق من صاحب المطعم، ويصادف أنه يتطابق مع مبلغ احتاجته النادلة (تقوم بدورها روني مارا) لإجراء عملية إجهاض.
الموضوع الأساسي للفيلم يتمظهر من خلال اختيار شخصيات عالم المطبخ، هؤلاء القادمين من جغرافيات متعددة، والمشاحنات أو الحوارات التي تدور بينهم طوال اليوم، إذ تتنوع علاقاتهم بين مساحات للضحك وإلقاء النكات والشتائم، ومساحات للصراع الجسدي، أو ديناميكيات التعامل بين الأعراق المختلفة، خذ على سبيل المثال، أن الطباخين المكسيكيين في المكان، يعاملون النادلة الكولومبية بمنتهى الوقاحة وتتغير معاملتهم مع النادلات البيض.
صراعات أخرى تتمثل في من يعمل بشكل شرعي أو لا، ومن يمتلك الجنسية الأمريكية – وإن كان غير أمريكي الأصل – ومن لا يملكها، وقصص الحب المُسماة بحب الفيزا، وفيها يود طرف أن يتزوج من طرف آخر للحصول على إقامة في مكان، وهي حكاية ليست بغريبة عن عالمنا بأي حال من الأحوال. إلى جانب ذلك تظهر صراعات بسبب اللون وبسبب التحدث بلغات غير الإنجليزية.
ما يجعل فيلم رويز- بالاسيوس مميزًا، هو تصوره السمعي والبصري لذلك العالم، ففي وقت الذروة على سبيل المثال، تفسد ماكينة الكوكاكولا بسبب نادلة لم تنتبه لملء كوب من المشروب الغازي لزبون، الأمر الذي يسبب حالة من الفوضى المهولة في أشد ساعات العمل ضغطًا في الطلبات. في تلك الحالة الفوضوية، يأخذ المخرج المشهد في لقطة واحدة طويلة تتحرك بين صالة المطعم التي تضج بأصوات الأشواك والسكاكين والثرثرات المتعددة والموسيقى الخلفية، وبين المطبخ حيث أصوات السكاكين وماكينة الطلبات وأصوات الأطباق وملء الأكواب وغيرها. هنا تتحول اللقطة الطويلة إلى نفس طويل للمشاهد، يتشاركه مع العاملين الذين لا يملكون وقتًا لتضميد جرح أو الوقوف لأخذ استراحة أو حتى العمل في مكان نظيف، لكن هنا أيضًا يظهر تضامن العاملين مع بعضهم البعض إذ يحاولون تخفيف وطء اللحظة الحرجة من خلال التعاون أو طلب أغاني من مدير المطبخ الذي ربما يكون مايسترو هذه الفوضى التي تتسبب في حصول الزبائن على طعامهم في النهاية في الوقت المناسب.
على العكس من ذلك، يصور بالاسيوس وقت الراحة بشكل شاعري مليء بالحوارات بين الشخصيات التي تلتقي للراحة في حارة خلفية للمطعم، يقف فيها العاملين بينما يدخنون سجائرهم ويحكون عن أحلامهم أو كوابيسهم، لحظة تضامن أخرى، تشبه وقفة علاج جماعي لما حدث من ضغط في اللحظة التي سبقتها، وهنا يختلف الأسلوب إذ تظهر اللقطات المقربة التي تلتقط الشخصيات بينما تحكي عن مشاعرها. أخيرًا، هناك لحظات يخرج فيها المخرج عن الأبيض والأسود الذي يصور به الفيلم، ليشير إلى لحظتين مختلفتين تمامًا عن السائد والروتيني، ولكنه في هاتين اللحظتين لا يستخدم طيفًا كاملًا من الألوان وإنما لون واحد يغطي المشهد بأكمله، ويمنحه تفرقة عن باقي المشاهد.
“مطبخ” رويز- بالاسيوس، عالم مصغر لنيويورك، إذ تلعب صالة الطعام مكان العالم المكشوف أو الظاهر بينما يلعب المطبخ دور العالم السفلي للمدينة، المكتظ بالمهاجرين والمكافحين للحصول على قوت يومهم. يستطيع رويز بالاسيوس بذلك العالم المغلق خلق فيلم جذاب بصريًا ذو إيقاع متناسب مع الأحداث الدرامية ويصلح لجماهير عريضة حتى وإن اختلفت مستويات تأويله، وربما هنا يكون هو الآخر قد نحى ذات المنحى الذي اتخذه روبن أوستلند ويورغوس لانثيموس في أفلامهم الأخيرة، بالاستعانة بممثلين مشهورين وصناعة فيلم ناطق بالإنجليزية يدور في نيويورك. وهذا ما قد يدفع اسمه أيضًا إلى مزيد من الجماهيرية. أخيرًا يجدر الإشارة إلى الأداء الرائع لراؤول بريونيس، الذي يؤدي شخصية بيدرو، والتي ربما تشبه إلى حد ما شخصية جوني في “عارٍ” لمايك لي، ويشبه أداؤه بشكل ما أداء ديفيد ثوليس في تمثيله للشخصية المضطربة المغتربة عن العالم الذي تعيش فيه.
اقرأ أيضا: ينابيع مارتن سكورسيزي