فاصلة

مقالات

باولو تافياني… وداع إلى اليوتوبيا

Reading Time: 5 minutes

في 15 أبريل 2018، وعن عمر ناهز 88 عامًا، ودّعت السينما فيتوريو تافياني، الذي احتل وشقيقه باولو موضعًا بارزًا بين أهم مخرجي السينما الإيطالية. بعد شهر ونصف الشهر من وفاته، كشف باولو تافياني – الشقيق الباقي- عن أحدث أفلامهما «سؤال خاص» (Una Questione Privata). كانت تلك المرة الأخيرة التي تحدث فيها الأخوان عن الفاشية. وفي 29 فبراير الماضي، انطفأ باولو عن 92 عامًا.

فيتوريو تافياني وباولو تافياني

 قبلها بعامين، وفي «مهرجان برلين»، قدم باولو بمفرده للمرة الأولى والأخيرة فيلمًا بعنوان «وداعًا ليونورا» (Leonora Addio). لا يمكن قراءة هذا الفيلم على أي نحو غير أنه وداع من شقيق إلى شقيقه، أو حتى انعكاس لما أصبح عليه الفنان وفنّه بعد وفاة نصفه الآخر.

لا يمكن الحديث عن باولو من دون ذكر فيتوريو. لم يفترق الاثنان طوال مسيرتهما المهنية. وصلا إلى السينما في نهاية موجة الواقعية الإيطالية الجديدة (Italian Neorealism)، وأبقياها حيّة لبعض الوقت. عمل الأخوان كشخص واحد. كان لديهما شخصيتان مختلفتان، لكن الطبيعة كانت نفسها، وخياراتهما في الحياة والفن هي نفسها والديناميكية بينهما مبهرة.

wondrous boccaccio

ولد الشقيقان في سان مينياتو، البلدة التي تقع بين فلورنسا وبيزا. وبدلًا من أن يكونا مهندسين أو محاميين كما جرت العادة في بلدتهما، ذهبا في الستينيات إلى روما. هناك صنعا مع الهولندي العظيم جوريس إيفانز (1898 – 1989)، أحد رواد السينما الوثائقية في العالم، وثائقيًا بعنوان «إيطاليا ليست دولة فقيرة»، (1960 – L’Italia non è un paese povero) اختلطت فيه صور البنية التحتية النفطية الحديثة مع صور أخرى لطريقة العيش التقليدية السائدة في المناطق الإيطالية الفقيرة.

بعد ذلك، صنعا فيلمين مع المخرج الإيطالي فالنتينو أورسيني (1927 – 2001)، هما «رجل للحرق» (1962 – Un uomo da bruciare) الذي طرح ضمن أسلوب الواقعية الجديدة، سيرة النقابي الصقلي سلفاتوري كارنيفال (1923 – 1955)، الذي قاتل ضد المافيا، إلى جانب فيلم «الخارجون عن الحب» (1963 – I Fuorilrgge del matrimonio)، الذي كان عبارة عن دراما وثائقية من ستّة فصول ساخطة ومريرة، تصوّر مصاعب الحياة الزوجية الإيطالية في ظلّ عدم وجود قانون مدني للطلاق.

باولو تافياني

بين الفيلمين الثالث والرابع، بدأت إيطاليا تتغيّر. مات زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي بالميرو تولياني (1893 – 1964)، وانفصل الأخوان تافياني عن أورسيني. شعر الأخير بالحاجة إلى الانخراط في السينما السياسية والنضالية، بينما تعين على الأخوين تافياني التعامل مع احتمالات العلاقة بين الأيديولوجيا والفن، السياسة والجماليات.

في «المخربون» (1967 – I Sovversivi)، رابع أفلامهما، والأول لهما منفردين، روى الأخوان أزمة أربعة مناضلين بدأت آمالهم في الانهيار. باللجوء إلى الواقعية الجديدة، صوّر الأخوان أعراض أزمة اجتماعية تلوح في الأفق مع تسلّل الضيق الفردي وخطر فقدان الهوية إلى الحركة العمالية. 

 the subversives

التاريخ والسياسة حاضران دومًا في أفلام الأخوين تافياني؛ الهزيمة، واليوتوبيا باعتبارها مصدرًا لتعديل التاريخ والقيمة السياسية للفرد، والمُثل التي لا يقضي عليها سوى الموت. هذه هي العناصر الرئيسية في سينما الأخوين اللذين أعلنا في الستينيات: «نحن مع سينما خطّية مرتبطة بالنوع الكلاسيكي وتتجه نحو الملحمة».

أثبتت الديناميكيات الأسلوبية للأخوين تافياني، قدرتهما على استيعاب وهضم نماذج ومرجعيات متعددة وتكييفها. هكذا، فإن برتولد بريخت، وتشابلن، وتولستوي، وإيزينشتين، وهربرت ماركوز، والفلسفة والميلودراما يتعايشون جميعهم بكل سهولة في أفلامهما، تمامًا كما جعلا مسرح الدمى والسينما الشعبية وتقاليد الميلودراما تتعايش بأريحيّة. تبدو الاشتراكية في نظرهما نظامًا ديناميكيًا ومفتوحًا، قادرًا على أخذ التحديات الفردية والجماعية في الاعتبار. وكما أنّ عالمهما منفتح على التأثر بالحاضر، يمكن أيضًا اعتباره تراثًا فكريًا متأثرًا بالماضي.

سعفة «مهرجان كان» الذهبية ذهبت لهما عن فيلم «الأب والسيد» (1977 – Padre Padrone) المستوحى من كتاب سيرة ذاتية بالعنوان نفسه للكاتب غافينو ليدا.

يتناول الفيلم سيرة راعٍ من ساساري، يعاني من استبداد أبيه ويحاول التخلص منه من خلال تثقيف نفسه. الفيلم قصة ثورة وتمرد ضد الأب وضد أي سلطة استبدادية. لا يوجد في الفيلم طابع رومانسي ووردي لحياة الراعي، بل يصوّرها على أنّها وحشية وساحقة للروح، وسجن أيضًا.

لطالما كان للريف الخصب حضور حيوي وحسّي في أعمال الأخوين، ومع ذلك يُنظر إليه بشكل غير عاطفي: المناظر الطبيعية، والطبقة العاملة الزراعية، والنضال، والهروب، والأيديولوجيا، كل شيء اندمج بشكل مُرضٍ في الفيلم. كان روبيرتو روسيليني وقتها رئيسًا للجنة التحكيم في كان، وذكرت الناقدة بولين كايل، الذي كانت عضوة في لجنة التحكيم، كيف دافع روسيليني بشغف عن الفيلم، وهاجم الجميع إلى درجة أنّ هذه الحادثة ربما ساهمت في الأزمة القلبية التي أودت بحياته بعد أسابيع.

(1977 – Padre Padrone

بعد نجاح «الأب والسيد»، تمتع الأخوان بنجاح متواضع مع مثلث الحب التوسكاني «المرج» (1979 – Il Prato)، مع إيزابيلا روسيليني. ولكن أبهرانا بالدراما العاطفية والحنين إلى زمن الحرب في «ليلة سان لورينزو»، أو «ليلة النجوم المتساقطة» (1982 – La Notte di San Lorenzo) الذي حاز جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان كان. بعد ذلك اتخذت افلامهما اتجاهًا سرديًا ملحميًا بشكل متزايد. يبدو أن عنصر الأيديولوجيا تراجع لإفساح المجال أمام العنصر الغنائي والملحمي.

باولو تافياني

لكنّ البحث عن معنى للوجود والتفكير الماركسي العميق لا يزال قائمًا، يتم استكشافه من خلال روائع أدبية عظيمة. كانا يبحثان عن طرق جذرية وصعبة لتقديم الحياة البشرية، بطريقة أكثر طبيعية وأكثر شبهًا بالحلم أو الرمز، وغالبًا ما تكون مستمدة من أدب مؤلفين مثل لويجي بيرانديلو وجيوفاني بوكاتشيو ويوهان غوته، كما كان لدى الأخوين اهتمام بتكييف أعمال تولستوي. في «صباح الخير يا بابل» (1987 – Buongiorno Babilonia)، رويا قصة شقيقين توسكانيين من سلالة طويلة من الحرفيين ومرمّمي الكنائس، وجدا نفسيهما عاطلين عن العمل، وهاجرا إلى الولايات المتحدة للعمل على الفيلم الصامت للمخرج الأميركي ديفيد وارك غريفيث «التعصب» (1916، Intolerance)، ولكن سرعان ما أصبحت الحياة مريرة، ودخلت الحرب العالمية الأولى لتصبح الكاميرا التي يستخدمها الجيش لأغراض عسكرية، شاهدًا دراميًا على خاتمة حياتهما.

باولو تافياني

حقق الأخوان نجاحًا متأخرًا لكن مذهلًا في الدراما الوثائقية «قيصر يجب أن يموت» (2012 – Cesarean Deve Norite) الذي حاز دب برلين الذهبي. في هذا الفيلم يعودان إلى الأساسيات، إذ يدور حول السلطة والسياسة والأيديولوجيا. لقد كان عودةً قوية إلى المشاعر التي قادتهما للمرة الأولى في الستينيات. 

رافق باولو وفيتوريو تافياني، المناضلين اليساريين خطوةً بخطوة، نحو ذلك البلد الذي أصبحت عليه إيطاليا. لقد كانا يأملان أن تتواصل عملية استعادة الماضي، لكنهما لم يفهما تمامًا لماذا سارت الأمور بشكل مختلف عما كانا يأملانه. أفلامهما، كانت تقدم تصويرًا نموذجيًّا، إلى حد ما، لجهود اليسار الذي كان يأمل بتغيير الأمور. ثم حلّ الظلام على السينما الإيطالية بأكملها طوال الثمانينيات والتسعينيات. 

لكن برغم عصور إيطاليا المظلمة، كان الأخوان متفائلين، إلى درجة أن بازوليني جاء لحضور عرض خاص لأحد أفلامهما. خرج بعد ذلك من القاعة، واحتج مع الأخوين على وجهة نظرهما المفعمة بالأمل: «قال لنا بازوليني، إن تفاؤلكما أكثر مأساوية من تشاؤمي»، بعد أيام قليلة، مات.

بعدما تعرّف الأخوان على السينما، عرفا أنّها اللغة التي يريدان التحدث بها. تعاهدا إن لم يصنعا أفلامًا خلال عقد من الزمن، سيشتريان سلاحًا ويقتلان نفسيهما. لقد عمل باولو وفيتوريو تافياني معًا في توازن مثالي على مدى أكثر من 50 عامًا. عكست أفلامهما أهمّ التغييرات التي شهدتها إيطاليا خلال نصف القرن الماضي. سينما واقعية تدمج وتتلاقى مع الأساطير والأحلام واليوتوبيا، التي يتولى التاريخ تحطيمها وتدميرها.

اقرأ أيضا: «كثيب.. Dune2»… تحفة جديدة في مسيرة دوني فيلنوف

شارك هذا المنشور