فاصلة

مقالات

النساء والأغاني في أفلام محمد خان

Reading Time: 7 minutes

“الأيام تجري ونحن مدفوعين معها سواء أردنا أم لا، إننا نجري أيضاً.. نجري بعيد عن الماضي، عن الحاضر وحتى عن أنفسنا؛ الشيء الوحيد الذي يربطنا بالذكريات هي أرواحنا، إحساسنا، شخصياتنا؛ فالشخصيات تختلف ومع هذا الاختلاف تختلف الحياة”، في العشرين من عمره كتب محمد خان هذه الكلمات لصديق مراحل حياته سعيد شيمي والذي قام مشكوراً بنشرها استجابة لرغبة خان، تكمن أهمية هذه الرسائل أنها بمثابة المشهد الافتتاحي لفهم جذور عبقرية وإبداع خان في السينما المصرية. 

تدور أفلام خان حول الشخصية لا الحدث، وهي سمة أفلام مرحلة الواقعية الجديدة في السينما المصرية، والتي أسسها خان مع عاطف الطيب وداود عبدالسيد وخيري بشارة. خلق خان أو ميمي كما كان يدعوه سعيد شيمي شخصيات أبطال أفلامه من ذاكرته وأحلامه وإحباطاته وفهمه ونظرته للحياة. تكمن بطولتهم في صراعهم مع الحياة قبل أن يسدل الستار على النهاية. يؤمن خان أن الموت هو فناء الجسد لا الروح، لذا حتى حينما تموت الشخصية بنهاية الفيلم ستكمل روح الشخصية صراعها في الحياة ضمن سردية أخرى مثل فارس في “طائر على الطريق” و”الحريف” و”فارس المدينة” ، لا ينسى خان شخصياته حتى لو كانت طفلة، كما فعل  في المشاهد الافتتاحية لفيلم “فارس المدينة”، حينما سأل “فارس” الخادمة عن أمها “هند” وأبيها وخالتها “كاميليا” ومن خلال مشهد لا يتجاور ٧ ثواني، عرفنا أن “عيد” أحمد زكي في أحلام هند وكاميليا لا يزال من زوار السجون. 

هذا التماهي مع الشخصية وحكايتها وتمكين الممثلين من الإمساك بتفاصيل الشخصية وروحها من خلال تعابير الوجه والجسد و توظيف المكان وتأثير صوت شوارع المدينة وسياراتها ومتانة السرد البصري، يقابله قدرة خان الواضحة على تحرير الممثلين من عبء الشخصيات السابقة وخلق روح وتفاصيل جديدة لهم في الأدوار المختلفة لخدمة الحكاية الجديدة بغض النظر عن موقع الشخصية من الحكاية. 

محمد خان

“كانت المرأة إحدى مفاتيح خان لفهم الحياة، لذا نزع في صباه للتعرف على نساء يكبرونه في العمر لأن الحياة بالنسبة للمرأة شيء مختلف” [١]، وهذا يفسر سطوة حضور الشخصيات النسائية وأزماتها في مسيرته الفنية. لا يقل حضور الصوت وخصوصاً الأغاني المنبعثة من راديو السيارات والمقاهي وبلكونات الشقق وغرفها أهمية  في التأثير عن الشخصية النسائية ومعضلتها، بل أن بعض حكايات خان كان المطرب/ة جزء من حاضر الشخصية  وملامحها النفسية مثل علاقة ميرفت أمين في دور “منى” في فيلم “زوجة رجل مهم” أو أن تكون نقطة تحول في مصير الشخصية وبوابة للتعرف على الحياة والحب والخروج من فضاء المكان المحدود لحياة أوسع وتجارب أكثر، مثلما حدث مع غادة عادل في دور “نجوى” الفتاة الحالمة التي تبحث عن معلمة الموسيقى التي من خلالها عرفت ليلى مراد والحب  في فيلم “في شقة مصر الجديدة”.     
[١] مشوار حياة: خطابات محمد خان إلى سعيد شيمي

حضرت فردوس عبدالحميد في سيرة “فارس” الشخصية الأكثر اكتمالاً في سينما محمد خان في فيلمين، أولهما  “طائر على الطريق” والذي أُنتج عام ١٩٨١، ولعبت فيه دور “فوزية”،  ثم في عام ١٩٨٤ جسدت فردوس شخصية “دلال” في فيلم “الحريف”. كان الفارق بين فوزية ودلال ٣ سنوات وخيبات تسبب بها رجل، لكن خان قادر على إبراز هذا التباين في الخيبة وطريقة النساء في التعافي، والتحرر؛ فمثلاً في “طائر على الطريق” كانت فوزية حبيبة مهجورة، رحل عنها حبيبها بدون تفسير ثم أصبحت زوجة لرجل يملك سلطة المال ومحروم من البقاء والاستمرارية المتمثلة في الإنجاب، “فوزية” لم تملك مصيرها في علاقة الحب الأولى والزواج الذي تم بناء على احتياج عائلتها، هذه القيود لم تكسر روحها النزاعة للحرية، والراغبة في حق امتلاك تحديد مصيرها لذا هي تهرب من ممارسة الجنس مع زوجها “جاد”، وتصفف شعرها على طريقة قصة “الجرسون” وهي قصة ذكورية  تمنح صاحبتها شعور أكبر بالاستقلالية والثقة، هي قصة متمردة على فكرة الشعر الطويل الذي دوماً ما كان رمزية لقيم الأنوثة الباحثة عن الحب والرعاية والاهتمام فبطلات ديزني وملهمات الشعراء ونجمات أغلفة مجلات الموضة جميعهن ذوات خصلات طويلة. 

العلاقة الدافئة مع “فارس” أحمد زكي، علاقة مدانة في نظر المجتمع لكنها نافذة الضوء الذي تسلل لروحها، لذا لا عجب أن يختار خان الباب في كادر تصوير مشهد طلبها للطلاق من “جاد”، فالباب طريقنا نحو الخارج وربما الداخل، تعتمد الوجهة على موقفنا الحالي. كانت مشاعر الغضب والقهر والعجز هي ما تعبر عنه ملامح “فوزية” ثم تحولت للتردد ثم التمرد، أما “دلال” في “الحريف” فكان لها من اسمها نصيب فهي الزوجة المحبة المخذولة والتي تتعرض للعنف، هي علاقة حب معقدة حيث يترافق الحب مع العنف؛ مما يؤدي للطلاق بينهم،  “دلال” في الفيلم تمثل المرأة التي تبحث عن الانتقام لكرامتها من خلال اثارة غيرة “فارس” عادل إمام، أو الحط من قدره بالكلمات، تمثل القبلة بين دلال وفارس اعتذار عن فوضى العواطف وعنفها بينهما. 

لا يكتفي خان بالشخصيات النسائية في الفيلمين السابقين للتعبير عن المشاعر، لكنه يستخدم الصوت، من خلال الأغاني أو حتى صوت الأنفاس اللاهثة كما حدث في فيلم “الحريف”. في فيلم “طائر على الطريق” كانت الأغاني تعبر عن الحب وتدور في فضاءه، الجانب اللذيذ من الحب والذي دوماً ما رافق  مرحلة البدايات ودهشة اكتشاف الحب  مثل أغنية “بين شطين وميه” لمحمد قنديل، وأغنية “أهواك” لعبد الحليم حافظ، وأغنية “حلوين من يومنا والله” لسيد مكاوي؛ هذا الحب الذي يغمر الشخص ويفيض حتى يروي حتى الوطن، ولا نعلم الوطن عند خان هل هي الأرض أم أن المحبوب هو رمزية الوطن، حينما حضر صوت داليدا وهي تغني “حلوة يا بلدي” في مشهد من مشاهد الفيلم. 

أفلام محمد خان

أما في فيلم “الحريف” فكانت الأغاني تدور في فلك الوحدة والهجر والقسوة مثل أغنية “سهران لوحدي” لأم كلثوم، وأغنية “في يوم من الأيام” لعبد الحليم حافظ. اللافت أن هذا الفيلم مفعم بالحضور الطاغي لصوت لبنان الفنانة فيروز، فسمعنا صوتها يتسرب بين المشاهد في اغنية “زوروني كل سنة مرة” وأغنية “يا مرسال المراسيل”، وأغنية “يوم ويومين وجمعة”، ومن وجهة نظري الخاصة أعتقد أن هذه طريقة خان للتعبير عن التضامن مع لبنان إثر المجازر الدامية التي ارتكبتها إسرائيل في لبنان في تلك السنة، فكأن صوت فيروز هو رمزية بقاء وصمود  لبنان. 

خان قدم لمحة عن ذكائه اللغوي من خلال التلاعب في الكلمات الظاهرة على اللوحات لإيصال فكرته فمثلاً في فيلم “طائر على الطريق” في الدقيقة ٢٨ بعد الساعة الأولى من الفيلم تقترب الكاميرا بشكل تدريجي من لوحة الشارع المكتوب عليها “الإسماعيلية ترحب بكم” حتى لا يبقى من الحروف إلا كلمة “حب”، وفي فيلم “الحريف” وبعد مرور ساعة و31 دقيقة نرى الكاميرا تهتز وتقوم بتقطيع كلمة  (Sindbad) وهو اسم الكازينو الذي دخله “فارس” مع صديقه  لتظهر لنا كلمتين باللغة الإنجليزية يمكننا ترجمتها إلى خطيئة وسيء. 

في عام ١٩٨٦ كانت أول أعمال ميرفت أمين مع خان من خلال فيلم “عودة مواطن” والذي يتناول حكاية عودة الأخ الأكبر “شاكر” ويقوم بدوره يحيى الفخراني لبلده بعد غربة في الدوحة، ليعيش الاغتراب في وطنه وبين أسرته، وتمثل ميرفت في الفيلم شخصية “فوزية” الأخت التي تقوم برعاية إخوتها والاهتمام بشئونهم، في بداية الفيلم تبدو فوزية صورة نمطية عن الأخت الكبرى ودورها الأمومي في الرعاية ثم مع تطور الشخصية في الفيلم تتحول فوزية من الأخت المُضحية إلى سيدة الأعمال التي تدير محل للحلويات ذات نزعة مستقلة ومتمردة  على قوانين الأسرة الشرقية التي تنص على أن المرأة لابد أن تكون محاطة بالذكر “الراعي” و”الحامي”، فهي لا تخرج من منزل العائلة إلا لمنزل الزوج، لكن “فوزية” فعلتها وغادرت وكأنها للتو اكتشفت معنى الحياة، فأقبلت عليها بنهم بعد سنوات من الانغلاق حول ذاتها إثر تجربة حب فاشلة، وكعادة خان في استخدام قوة الكلمة ورموزها يطلق اسم “ماري أنطوانيت” على محل الحلويات مستمداً من شرارة الثورة الفرنسية صورة ناعمة لثورة فوزية الداخلية. 

أفلام محمد خان

بعد عامين يقدم خان ميرفت في دور “منى” الفتاة الحالمة في فيلم “زوجة رجل مهم”، والتي تتحول من فتاة تستبدل قرطها البريء على شكل الفراشة بأقراط اللولو لتبدو صورة حية عن لوحة السيدة ذات القرط اللؤلؤي للفنان الهولندي يوهانس فيرمير التي تبدو عينها مصوبة نحو ما لا نراه وشفتاها تبتسم  بشكل غامض وعميق، لا تشابه منى شخصية “جيهان” التي لعبتها أيضاً ميرفت أمين في فيلم “أيام السادات” والذي صدر عام ٢٠٠١ مقدماً سيرة الرئيس السادات مستنداً على مذكرات السادات وزوجته جيهان، حتى وإن كان طرف الحكاية رجل يملك سلطة عسكرية يستمدها من موقعه في المباحث أو الجيش.

عانت “منى” من نرجسية السلطة فكانت صورة مختزلة للحلم والرقة القادرة على إظهار مدى قسوة السلطة وتأثيرها، أما جيهان فكانت المصباح الكاشف لطموح ونجاح السلطة.

وكعادة “خان” في توظيف الأغاني كانت الأغنية في فيلم “عودة مواطن” أما وعد وتمهيد عن التغيير الذي سيحدث مثل أغنية علي الحجار “على قد ما حبينا” أو رمزية عن زمن غربة المصريين في الخليج، من خلال حضور صوت خالد الشيخ والذي يمثل صوت الشباب والتغيير في الخليج في فترة الثمانينات، كخلفية صوتية لمشاهد سيارة  شاكر من خلال أغنية يود عليه وأغنية كمنجة، والجدير بالذكر أن صوت خالد الشيخ يظهر في فيلم آخر وهو فيلم “أحلام هند وكاميليا” والذي تم إنتاجه عام ١٩٨٨، أما في فيلم “زوجة رجل مهم”، فكانت الأغاني تساهم في خلق الحالة الشعورية الحالمة لمنى من خلال أغاني عبدالحليم حافظ مثل “أهواك”، و”بتلوموني ليه”، و”صافيني مرة”، و”أنا لك على طول”. 

قدرة خان المبهرة في التقاط تفاصيل الأشخاص والأماكن والأصوات وتوظيفها لسرد الحكاية التي يود قولها من خلال مشاهد تخلق منه مخرج بروح شاعرية ورؤية روائية عصية على النسيان، عاش خان للذكرى، ومنحته الأفلام التي صنعها القدرة على البقاء في وجدان محبي السينما المصرية.

” أنا أريد شيء من هذه الحياة اريد الذكرى وسأعطي الثمن بحياتي”. 
                                                                                         محمد خان.. يناير ١٩٦٣

اقرأ أيضا: في سماء الفن السابع

شارك هذا المنشور