في مسلسل «هجوم يوم الصفرZero Day»، يلعب روبرت دي نيرو دور رئيس سابق يُلقب بـ”الأسطورة”. وإن كان هناك ممثل يستحق حمل هذا اللقب، فهو هذا النيويوركي البالغ من العمر 81 عامًا.
يراه البعض أعظم ممثل على قيد الحياة. وفي نظر آخرين هو الأعظم على الإطلاق. لم يعد بإمكان دي نيرو الحصول على جوائز التمثيل في وطنه، فقد حصل عليها جميعًا، بما في ذلك الجوائز العالمية والفخرية. ولكن تنقصه واحدة: السعفة الذهبية الفخرية في مهرجان كان السينمائي، وخلال شهر واحد ستسقر في خزانة جوائزه العديدة بعد تكريمه في المهرجان.
لم يتمكن أحد مثل روبرت دي نيرو من إضفاء طابع إنساني على شخصيات غامضة في أفلام لا تُنسى. لكن، لا يشبه دي نيرو شخصياته. من مسافة قريبة، يبدو هادئًا متحفظًا ويصّر على أن يُنادى باسم بوب.
ولد روبرت أنتوني دي نيرو في مانهاتن، قلب مدينة نيويورك، في 17 أغسطس 1943، وقت كانت الولايات المتحدة الأميركية غارقة في الحرب العالمية الثانية. روبرت هو الابن الوحيد لفنانين، روبرت دي نيرو الأب وزوجته، فيرجينيا أدميرال، كلاهما رسامان. الشيء الغريب هو أننا جميعًا نعتبر دي نيرو أحد النماذج الأولية للأميركي الإيطالي، فقد صقل تلك الصورة في أذهاننا من خلال أدواره السينمائية، بينما الحقيقة هي أن أصوله الإيطالية تأتي من أجداده من جهة الأب، الذين هاجروا من فيرازانو بالقرب من ساحل البحر الأدرياتيكي في وسط شبه الجزيرة الإيطالية. لكن الدم الإيرلندي والألماني والفرنسي والبريطاني يجري في عروقه أيضًا. لذا، يعد دي نيرو مثالاً حقيقيًا على النيويوركي الأصيل، المصنوع من كلّ أصل يمكن تخيله.

انفصل والداه عندما كان في الثالثة من عمره، نشأ مع والدته، وذهبوا ليعيشوا في الحي الإيطالي، الحي الصغير الشهير الذي رأيناه جميعًا في الجزء الثاني من العرّاب (1974، «The Godfather Part 2»).
كان دينيرو طفلًا عادياَ، نحيفًا وشاحبًا. وكان الأطفال في شارعه ينادونه بوبي ميلك. درس في عشرين مكانًا مختلفًا، لم يكن يومًا جيدًا في أمور الدراسة والتحصيل حتى انه لم يتمم دراسته ومضى إلى نجاحاته العديدة من دون شهادة تخرُّج من أية مرحلة دراسية.
في العاشرة من عمره، سُمح له بالمشاركة في مسرحية مدرسية. المسرحية هي «ساحر أوز The Wizard of Oz»، واختير روبرت الصغير لدور الأسد الجبان، الدور الأبعد عن شخصيته وبنيته الجسدية، فالأسد في تلك المسرحية خمول رعديد ممتلئ الجسم، وكان روبرت دي نيرو نحيف كعود سباجيتِّي. لكن تلك الفرصة جعلته يعرف أنه ماهر في إقناع الآخرين بأنه شخص آخر، ومن وقتها لم يتوقف عن تلك اللعبة.
قرر دي نيرو ترك المدرسة والدراسة في مدرسة متخصصة في الفنون البصرية والأدائية، لكن البيئة التنافسية ضغطت عليه، فترك الدراسة والتحق بمدرسة عامة. وهناك بدأ يختلط بأطفال ينتمون إلى عصابة إيطالية وعلى الرغم من أنه لم يرتكب أية أعمال تخريبية، إلا أن هذه «الخبرة» ساعدته لاحقًا في لعب شخصية رجل العصابات الإيطالي الذي ميزه في مرحلة طويلة من حياته المهنية.

في السادسة عشر من عمره، ترك دي نيرو المدرسة، وبدأ دراسة التمثيل مجددًا، هذه المرة على يد معلمين كبار مثل ستيلا أدلر ولي ستراسبيرغ. أخذ المال الذي ادخرته والدته للدراسة الجامعية وخصصه للدراسة في «معهد لي ستراسبيرغ للمسرح والفيلم»، في ذلك الوقت كانت تلك أفضل أكاديمية تمثيل في العالم.
مسيرة دي نيرو عصية على السرد في مقال واحد، لقد كان على خشبة المسرح (نادرًا)، أو في مواقع تصوير الأفلام لأكثر من 60 عامًا. حتى الآن، ظهر في أكثر من 100 فيلم، ولا يخطط للتوقف عن الظهور في مزيد من الأفلام.

كان أول ظهور له عام 1965 في فيلم «ثلاث غرف في مانهاتن Three Rooms in Manhattan»، للمخرج الفرنسي مارسيل كارنيه، وهو كوميديا فرنسية عن الحب والسحر. كان دوره صغيرًا جدًا حتى أن اسمه لم يظهر في تتر النهاية. ظهر دي نيرو في الفيلم لثوان معدودة على الشاشة واحدًا من ضيوف حفل عشاء، ولم ينطق بكلمة واحدة.
أما أول دور له ينطق فيه بكلمة، فكان فيلم «تحيّات Greetings» للمخرج براين دي بالما. كان دي نيرو وقتها لا يزال يدرس التمثيل، لكنه ظهر في تلك الكوميديا المجنونة، شبه السوريالية عن الرجال الذين يتجنبون التجنيد في حرب فيتنام. كانت شامة دي نيرو على خدّه الأيمن، علامة مميزة لافتة للأنظار.
سرعان ما رسّخ دي بالما مكانته كمخرج محبوب، وكانت صداقته مع دي نيرو – التي لا تزال قائمة حتى اليوم- مفيدة للغاية للأخير، لأن «مرشده» عرّفه على جميع أصدقائه، ومن بينهم مارتن سكورسيزي، الذي اختار بوبي ميلك الشاب كأحد ممثليه المفضلين، وبدأت الروائع تتوالى.

يبدأ المشهد بصوت تشارلي كابّا (هارفي كيتل)، الذي يُلقي تعليقه الصوتي وكأنه يردد نبوءة أو نصًا مقدسًا: «شكرًا لك يا سيدي، على فتح عينيّ». في تلك اللحظة يدخل شاب حانه، متكئًا بين امرأتين، مستحمًا بضوء أحمر شيطانيّ، اسمه جوني بوي (روبرت دي نيرو). تبدأ الموسيقى بالعزف، كيث ريتشاردز يُشدد غيتاره، فتتجمد الحركة. يشق جوني بوي طريقه بحركة بطيئة عبر ضجيج النادي، بينما تُغني فرقة «رولينغ ستونز» عن رجل ربته امرأة ثعلبه بلا أسنان. يصل جوني بوي عند تشارلي كابّا، ويحضنان بعضهما.
هذا كان أول ظهور لدي نيرو في فيلم لمارتن سكوريزي، «شوارع لئيمة Mean Streets» عام 1973. لعب دي نيرو دور فتى أحمق ووقح غارق في الديون. سيحاول صديقة تشارلي، وهو أميركي من أصل إيطالي، إنقاذه. دشّن هذا الفيلم علاقة دي نيرو مع سكورسيزي، وسكوريزي مع فرقة رولينغ ستونز.
لم يكن هذا الفيلم هو الأول لسكورسيزي، ومع ذلك، هو الفيلم الذي بدأت معه أسطورة سكوريزي أيضًا.
سنة 1974، عُرض الجزء الثاني من «العراب The Godfather»، ولعب دي نيرو دور فيتو كورليوني شابًت. كان دي نيرو قد بلغ الثلاثين لتوه، وتسلم هدية لعيد ميلاده الثلاثين أول جائزة أوسكار.
اجتهد روبرت كثيرًا من أجل الجائزة، فقد أمضى أربعة أشهر في صقلية يتعلم اللغة المحلية، لا أحد يستطيع تخيل فيتو كورليوني الخجول والمتحفظ والشرس والأجش بوجه مختلف عن وجه دي نيرو، في دور جريء وحميم ومهدد في آن واحد. بعد «العراب» مع فرانسيس فورد كوبولا، أكمل دي نيرو مع سكوريزي في «سائق التاكسي Taxi Driver»، وأصبحت عبارة دي نيرو المرتجلة على المرآة «هل تتحدث معي؟»، من أشهر وأكثر الجمل جاذبية في تاريخ السينما.

أخرج سكورسيزي عشرة أفلام كان بطلها دي نيرو، بعد «سائق التاكسي»، عُرض «نيويورك، نيويورك New York, New York». وربما يكون دور دي نيرو في هذا الفيلم هو أحد أكثر ادواره دقة وجاذبية، فهو يجعلنا نحب جيمي المخادع والمغرور، على الرغم من الفظائع العديد التي يرتكبها في حياته الخاصة، وقبل كلّ شيء، في حياة صديقته.

في سنة 1981 وصلت تحفة جديدة من سكورسيزي ودي نيرو، «الثور الهائج Raging Bull»، الذي لعب فيه دي نيرو دور الملاكم جيك لاموتا. ومن أجل هذا الدور الرهيب الذي فاز عنه بجائزة أوسكار ثانية، تعلم الملاكمة واكتسب 27 كيلوغرامًا، وأصبح من الصعب التعرف عليه.
تقاطع هوس سكورسيزي بماضيه الإيطالي والعقيدة الكاثوليكية التي نشأ عليها مع أسلوب روبرت دي نيرو التمثيلي الفطري والقصص التي أراد سردها على الشاشة الكبيرة. وجد سكوريزي في دي نيرو مُكمّله المثالي، فهو ممثل منهجيّ يشاركه شغفة بالارتجال. علاوة على ذلك، وبسبب أسلوب عملهما المشترك، كان كلاهما مهتمًا بتقديم أشخاص وشخصيات ذات صلة وثيقة بـ«ذواتهم الداخلية»، واستكشاف نفسية أبطالهما واكتشاف الجوانب المظلمة للأشخاص الذين قد يبدون للوهلة الأولى أكثر من «طبيعية»، لكن ظروفهم أو بيئتهم تكشف عن أظلم سماتهم أو أفكارهم.

بعد «الثور الهائج»، جاء دور دي نيرو في «ملك الكوميديا The King of Comedy»، الذي يحكي قصة روبرت بربكين (دي نيرو)، الكوميدي البائس، المهووس بأن يكون الأفضل. هنا، يُجسّد دي نيرو شخصًا يُلامس الاضطراب النفسي أو الطموح المُفرط. صدر «ملك الكوميديا» بعد محاولة اغتيال الرئيس رونالد ريغان على يد أحد معجبي فيلم «سائق التاكسي»، لذلك أصبح الفيلمين إشارة واضحة إلى ما كان يمر به المجتمع الأمريكي، والتغييرات العميقة التي كانت البلاد تمرّ بها في أوائل الثمانينيات.
كانت آخر الأفلام العشرة التي شارك فيها دي نيرو سكورسيزي فيلم «قتلة زهرة القمر Killers of The Flower Moon»، دون أن ننسى أدواره العظيمة في «أصدقاء طيبون Good Fellas» و«كازينو Casino».
عمل دي نيرو في «حدث ذات مرة في أميركا Once Upon a Time In America»، ذلك الفيلم العظيم لسيرجيو ليونى. ودفعه حبه للتطور إلى أوروبا، ليكون أحد الأبطال في أحد أعظم المعالم في تاريخ السينما، فيلم «1900» سنة 1976 لبرناردو بيرتولوتشي.

«التمثيل وسيلة رخيصة للقيام بأشياء لا تجرؤ على القيام بها لو كنتَ على سجيتك». هذا ما دونه دي نيرو في سيرته الذاتية.
يُعرف دي نيرو ببذل قصارى جهده في كل دور، والبحث الدقيق في شخصياته، سواءً بقضاء الوقت مع أشخاص مشابهين أو حتى بتغيير مظهره الجسدي بشكل جذري. يتضمن نهجه الدقيق تحليلًا عميقًا للسيناريو وخلفية الشخصية ودوافعها؛ ينغمس في حياة الشخصية مستكشفًا مشاعرها ومخاوفها وتطلعاتها. وقد أدى هذا الالتزام الكامل إلى بعضٍ من أكثر التحولات التي لا تُنسى في تاريخ السينما.
لا يكتفي دي نيرو بحفظ حواراته، بل يتقمص الشخصية ويتجسد فيها تمامًا. إن قدرته على إظهار الضعف والضراوة بنفس السهولة دليل على إتقانه للأسلوب. هذا «الرجل الوجودي» هو سيد الصمت المُرهف والتهديد الهادئ، قال ذات مرة: «أحد مميزات التمثيل هو أنه يسمح لك بعيش حياة الآخرين دون الحاجة إلى دفع الثمن». إذا كان الأمر كذلك، فهو رجل عاش العديد من الحيوات. ويكشف مسح للعقود الأربعة الماضية من تاريخ السينما أن دي نيرو لم يتراجع أو يتضاءل أو يختفي أبدًا.

في موقع التصوير يُعرف حرصه على المساهمة بأفكار تُثري القصة بحوارات جديدة، بل وحتى إعادة كتابة مشاهد كاملة. لطالما ميّزت مسيرة دي نيرو المهنية أنه نادرًا ما رفض عرض عمل أو سيناريو، يقول دي نيرو «أعلم أن السينما وهم، ولكن ليس بالنسبة لي»، هكذا يرى أحد أكبر «وحوش» الشاشة الكبيرة السينما. هذا شخص قادر على ان يحول فيلمًا عاديًا إلى فيلم عظيم، قادر على تجسيد الروعة حتى أدق التفاصيل. بعيدًا عن الشاشة، لا يريد “بوبي” أن يكون للكاميرا والشاشة أي علاقة بحياته الخاصة التي يُبقيها سرًا، ونادرًا ما يجري مقابلات. إنه ببساطة مهتم بـ«ذهاب الناس إلى السينما، ومشاهدة أفلامي، والحكم عليّ من خلال عملي». وعلى الرغم من الانتقادات الأخيرة لتوليه أدوارًا كثيرة، متناسيًا عادته القديمة في أخذ وقته للتأقلم مع واقع الشخصية الجديدة، إلا أنه لا يزال الملك.
اقرأ أيضا: مهرجان كان يتوج روبرت دي نيرو بالسعفة الذهبية الفخرية عن إنجاز العمر