يحتل ساتياجيت راي مكانة فريدة بين صناع السينما الهندية، فهو واحد من قليلين استخدموا السينما لاستكشاف تعقيدات الحياة الإنسانية بعمق وذكاء.
ويمثل فيلم «المدينة الكبيرة» (Mahanagar) الذي أخرجه راي في عام 1963، تتويجًا لهذه التوجه في سينماه التي يلتف حولها نقاد ومحبين في مختلف أنحاء العالم في تقدير قل أن يحظى به مخرج بوليودي.
في هذا الفيلم، ينقلنا راي إلى قلب كالكوتا في خمسينيات القرن الماضي، حيث تتصارع عائلة من الطبقة المتوسطة مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية الحاصلة. يقدم راي من خلال شخصية «أراتي»، الزوجة التي تخرج إلى سوق العمل لأول مرة، تصويرًا دقيقًا للتوترات الداخلية الأسرية والخارجية التي تواجهها وهي تحاول تحقيق ذاتها في مجتمع تقليدي. يتناول الفيلم العلاقة المعقدة بين الفرد والمجتمع، حيث تعيش «أراتي» كفاحًا مستمرًا للتوفيق بين واجباتها كأم وزوجة وطموحاتها الشخصية، في بيئة تتشكل بفعل الحداثة المتسارعة.
تتكون عائلة أراتي منها، وزوجها «سبراتا»، وهو موظف بنك وطفلهما. هناك أيضًا أخت «سبراتا» غير المتزوجة؛ باني، ووالدين مسنين. الوالد هو معلم مدرسة متقاعد.
أمام ضائقة مالية لا تنفك، يدرك الزوجان ضرورة حصول الزوجة على وظيفة لمواجهة تزايد الضغوط الناجمة عن قلة دخل الأسرة. تخرج «أراتي» إلى العمل على الرغم من معارضة حماتها مدعومة بموافقة مترددة من زوجها، وذلك لتبيع ماكينات الخياطة الكهربائية لربات المنازل المترفات في كالكوتا. تنجح «أراتي» في هذه الوظيفة بشكل غير متوقع، مكتسبة شعورًا بالثقة والاستقلالية التي تغير ديناميكيات العلاقة في المنزل. فتقرر «أراتي» ترك العمل لاستعادة الانسجام الأسري، إلا أن «سبراتا» يفقد وظيفته في البنك في تلك اللحظة فتعدل عن قرار الاستقالة ويصبح البيت معتمدًا على دخلها. تواجه «أراتي» على صعيد العمل صعوبات تتعلق بصداقتها مع زميلتها الأنجلو-هندية؛ «إديث»، وسوء معاملة المدير للأخيرة.
في النهاية، تقدم «أراتي» استقالتها إلى المدير تضامنًا مع زميلتها، ويكشف أسلوبه المتعجرف وتهديداته المبطنة عن التنازلات الأخلاقية الكبيرة التي كان يتوقعها منها. تتصالح أراتي مع زوجها بعد الاستقالة. تقول بهدوء: «يا لها من مدينة كبيرة! مليئة بالوظائف. لابد أن يكون هناك شيء ما لأحدنا».
يسير الزوج والزوجة على هذه النغمة من التفاؤل الحذر وسط الحشود إلى أن يختفيا بينهم، تحتضنهم الشوارع التي تظهر في لقطة بعيدة، في عناق مجهول. ترتفع الكاميرا لتكشف عن مصباح شارع نصف مكسور، يبقى وحيدًا في المشهد الختامي، كرمز للتحديات التي تواجه الزوجين في المستقبل، مصباح مضاء ومكسور في آن.
كالكوتا هي المدينة الكبيرة في الفيلم. تكشف عدسة راي هذه المدينة وهي في طور التحولات بعد استقلال الهند وهدوء نسبي للحرب الأهلية فيها، من خلال فضاءات متنوعة تتنقل بينها «أراتي». تشترك هذه الفضاءات في كونها تعكس واقع المدينة الكبيرة. زحام المدينة الكبيرة يتوازى مع زحام الفضاء الأول؛ البيت الذي يعيش فيه الزوجان. وتُقدَّم الشخصيات للمشاهدين في سياق حياتهم اليومية الضيقة، وهم يتدبرون أمورهم في مسكنهم المتواضع، من خلال مشاهد تجسد ظروف معيشة الناس البسطاء عبر إظهارها غرفًا صغيرة مفصولة بستائر باهتة ورقيقة، مليئة بأثاث رخيص، مع تقشر الطلاء عن الجدران.
تبرز الكاميرا حياة الأسرة المليئة بالتوترات بين أفرادها المنتمين إلى ثلاثة أجيال محشورة في هذه الغرف الضيقة. تنجم هذه التوترات عن التناقضات بين الضرورات الضاغطة لاستمرارية الأسرة وآلية الاستجابة لهذه الضغوطات؛ والمتمثلة هنا بنزول المرأة إلى سوق العمل. هناك تصادم بين القيم الاجتماعية التي يحملها الجيل الأكبر الذي يريد إبقاء النساء في المنزل، مقابل قيم الجيل الأصغر الذي يرى ضرورة التغيير.
يُظهر راي براعته في التصوير السينمائي من خلال مشاهد مصممة بعناية، حيث يلتقط أنشطة متعددة في إطار واحد. يعتمد أيضًا على لقطات قريبة ومتوسطة تتابعها الكاميرا ببطء، مما يساعد على إبراز مشاعر الشخصيات بشكل دقيق ويضيف توترًا نفسيًا إلى المشهد، بأسلوب يذكرنا بـ«أنطونيوني». يستفيد راي من الأصوات الخارجية للمدينة لتعزيز الشعور بالتوتر والحيوية.
لا يترك لنا «راي» أي شك في موقفه لصالح حرية الاختيار لكل من النساء والرجال، ولكنه أيضًا لا يقلل من أهمية المسؤوليات والمخاطر المرتبطة بالتغيير. الألم المستمر الذي يعانيه الطفل في غياب والدته عندما تذهب إلى عملها يجعلها تدرك التحديات الاجتماعية والنفسية والوجودية التي يفرضها النظام الاجتماعي على امرأة تسعى لتحقيق التوازن بين المنزل والعالم.
يكشف هذا الفضاء عن التناقضات الأخلاقية الرئيسية في هذه الطبقة. فعلى الرغم من المعارضة الكاملة لعمل «أراتي»، إلا أنه لا يوجد ممانعة من الاستفادة من مكتسبات هذا العمل. هناك أيضًا نقد مبطن لمفهوم «الشرف» البطريركي في عائلة من الطبقة الوسطى، فبعد استلامها لراتبها الأول تشتري هدايا للجميع إلا أن والد زوجها يرفض أن يتسلم هديته من كنته.
الفضاء الثاني في الفيلم هو فضاء «الهنود-الإنجليز». يظهر هذا الفضاء كنافذة تطل منها «أراتي» على عالم جديد، عالم تهيمن عليه مفردات مثل السينما، أحمر الشفاه، الفونوغراف، والنظارة الشمسية. هذه الرموز تعكس تأثير الحضور البريطاني في الهند والذي اقتصر على النخبة الهندية حينها. يضفي هذا التفاعل بين الفضاءين أبعادًا جديدة على حياة «أراتي» ويعيد تشكيل عالمها. ففي مشهد رئيسي قرب نهاية الفيلم، عندما تزور «أراتي» شقة صديقتها «إيديث» لتسليمها المال المستحق لها، تجد نفسها في عالم مختلف تمامًا. «إيديث»، التي كانت مريضة لبضعة أيام، تُظهر جوانب من حياتها التي تعكس هذا الفضاء، حيث تستمع إلى موسيقى الفونوغراف وتقرأ مجلة مرتديةً رداءً غربي الطابع في تناقض واضح مع الساري التقليدي الذي ترتديه «أراتي». يتجلى هذا التفاعل في الحوار الذكي بين الشخصيتين، حيث تتحدث «إيديث» بالإنجليزية بينما ترد عليها «أراتي» بالبنغالية. رغم اختلاف لغاتهما، إلا أن كلًا منهما تفهم الأخرى بعمق. ومع ذلك، يكشف هذا المشهد، رغم جو الألفة فيه، عن العوائق التي تحول دون التفاهم الكامل بينهما.
كثيرة هي الأفلام التي ترصد التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تتعرض لها المجتمعات في مراحل مختلفة مثل «ميلدريد بيرس Mildred Pierce» و«حكاية من طوكيو Tokyo Story» و«الساعات The Hours». قدم كلٌ من هذه الأفلام رؤية فريدة عن التحديات التي يواجهها الأفراد، خاصة النساء، في مواجهة التغيرات السريعة.
بالمثل، تعيش مدينة الرياض اليوم في ظل تحولات هائلة، حيث تسعى لتحقيق توازن بين التقاليد العريقة والتطلعات الحديثة. هذه التغيرات تحمل في طياتها تحديات مشابهة لتلك التي عُرضت في الأفلام المذكورة، حيث تبرز قضايا تتعلق بمكانة المرأة في المجتمع، والصراعات الأسرية، والتوترات بين الأجيال. هذه التحولات تضع أمام سكانها تحديات مماثلة في كيفية الحفاظ على القيم التقليدية مع التقدم نحو الحداثة.
إن هذا المشهد الحضري الجديد يضع المدينة أمام تحديات مشابهة لما مرت به بعض المدن الكبرى في الغرب، حيث بلورة الهوية الوطنية يترافق مع الطموحات المستقبلية الكبيرة.
اقرأ أبضا: «ينعاد عليكو».. حكايات اسكندر قبطي العادية المُدهشة