بدأ الأمر بمحاولة الإجابة على سؤال: هل استطاع محمد عادل إمام أن يخرج من عباءة أبيه في فيلم اللعب مع العيال؟
وكانت الإجابة سهلة: بالطبع لا! ولماذا يريد أن يخرج من عباءة أبيه بالأساس!
الممثل الشاب لديه كل الإمكانيات الجسدية والشكلية التي تجعله يرتدي عباءة الأب ويضبطها على مقاس إمكانياته. يكفي أن نتأمل موتيفات الملامح ونظرات العيون وحركة حواجب الاندهاش وابتسامات الإحباط أو الاستسلام. ثم أن جزءًا مهمًا من أرضية الجماهيرية التي حققها راجعة إلى هذا التشابه المتعمد مع الأب/المؤسسة، وحتى في فيلمه الجديد «اللعب مع العيال» نرى الأب في الكثير من التفاصيل؛ يلعب الابن دور مدرس التاريخ الشاب الهارب إلى بلدة نائية لها عادات وتقاليد تخص مجتمعها المغلق – وهو تشابه واعي وواضح مع «هاني» مدرس التاريخ الذي يُنقل للسلوم (بلدة على الحدود المصرية الليبية) بعد ضبطه في قضية مقامرة، وهناك يصطدم بالطبيعة المغايرة لذلك المجتمع البدوي البعيد، كما صوره وحيد حامد في «الإنسان يعيش مرة واحدة» عام 1981، ولدينا الفتاة البدوية الجميلة (أسماء جلال) التي تقع في حب المدرس الشاب وتستدعي إلى خيالنا طيف (حنة) – سوسن بدر- من الأيقونة الجميلة «شمس الزناتي»- إخراج سمير سيف- 1991، ولا ننسى تقديم التحية إلى المارشال برعي (محمود حميدة) عبر شخصية أبو مغزوم التي قدمها باسم سمرة في الفيلم الجديد، وإن كان أبو مغزوم في وجه آخر له يحمل ملمحًا أكثر قوة من شخصية المارشال؛ إنه سيد التلعثم وصاحب المزاج والمطواة والسؤال الأشهر (هو بابا مجاش معاك ليه)؛ اللمبي!
ثم أليس عنوان الفيلم نفسه هو المقابل البارودي أو الساخر لواحد من أشهر وأهم أفلام الأب! ولكن بدلًا من (الكبار) لدينا (العيال)! ومع نفس المخرج (شريف عرفة) في أول تعاون بينه وبين الأب في فيلم «اللعب مع الكبار» 1991، مثلما جاءت تجربة «اللعب مع العيال» كأول تعاون بين عرفة والابن!
هذه الإحالات الواضحة لا تخص إمام الإبن فقط؛ ولكنها يمكن أن تقودنا إلى ملاحظات أكثر اتساعًا تخص عالم شريف عرفة نفسه.
من أين وإلى أين
عبود شاب عابث وحيد، يقرر اباه أن يدخله إلى الجيش كي (يتربي ويبقى راجل) فينجب له أخًا ذكرًا، مما يؤدي إلى الانتقال من بيئة العبث والفراغ والمرح إلى الخدمة العسكرية الخشنة في سيناء، ومواجهة عصابات زراعة وتهريب البانجو.
صلاح الدين عاشور هو شاب منطوي يعيش في بيئة مغلقة نتيجة دكتاتورية الأب ناظر المدرسة، ولكنه يضطر عقب وفاة ذلك الأب إلى أن يتولى مسؤولية المشروع الأساسي للأسرة العريقة صاحبة التاريخ الطويل في التعليم، فينتقل إلى عالم متسع، طريف وشرير في نفس الوقت، يواجه فيه مؤامرات وكيل المدرسة المختلس.
أما فريد عز الدين، فهو شاب ثري ولد وفي (كرشه) طاجن ذهبي، لكن إفلاس والده يعرضه إلى الانحدار الطبقي الحاد ليجد نفسه صحبة مجموعة من «العوالم»، ويقع في حب راقصة جميلة فقيرة تسكن وأهلها في قصر خشبي.
محي الشرقاوي شاب طموح يعيش مع جده لأبيه الذي يشكل هو وأعمامه عصابة تهريب طريفة، وفي محاولة منه للتخلص من أثرهم السيئ يسافر إلى الصين للمشاركة في مسابقة طهي عالمية، وهناك يدخل في مغامرات متعددة تخلصه بالتدريج من خوفه المرضي أو على حسب صرخته الشهيرة (أنا مبقتش أخاف زي الأول.. أنا بقيت أخاف أكتر).
الأفلام السابقة بالترتيب هي عبود على الحدود والناظر وابن عز وفول الصين العظيم.
يمكن أن نلاحظ بسهولة أننا أمام نفس البناء، نفس تركيبة الشخصيات التي تنطلق من واقع عائلي استثنائي أو غريب إلى بيئة مفتوحة وعالم عبثي وقاسي ومضطرب، يضطر الشخصية إلى التأقلم وإعادة اكتشاف الذات والخروج بدروس في الحياة.
فهل يرتبط هذا في عالم شريف عرفة – فقط- بالكاتب أحمد عبد الله، صاحب سيناريوهات الأفلام السابقة؟
الإجابة لا!
حسين شاب مصري يهاجر إلى الخارج عقب فصله من الكلية الحربية وهناك يتورط في أعمال مشبوهة مع منظمات إجرامية ويتم تجنيده من أجل إحباط محاولة اغتيال البابا في مصر.
تحسين شاب انطوائي يعمل في بيت الرعب بالملاهي يتعرف على نرمين الجميلة التي يتبين لاحقًا أنها تنتمي لواحدة من قبائل الجن، وينتقل تحسين بعد زواجه منها إلى قصر ابيها المليء بالتفاصيل المرعبة ليواجه مصيره من أجل (تحسين) نسل العائلة الحمراء.
مجموعة قتالية وقت حرب الاستنزاف تقوم بعملية شبه انتحارية لتحرير مجموعة من الأسرة في سيناء عقب أسرهم في حرب 67 وهناك يواجهون البيئة الصحراوية الصعبة ويقع أحدهم في حب فتاة بدوية جميلة تساعدهم – وهي بدوية أخرى غير حنة شمس الزناتي، هي بدوية شريف عرفة التي نلتقي بها هذا الموسم في اللعب مع العيال.
الأفلام الثلاثة السابقة بالترتيب هي «مافيا» تأليف مدحت العدل و«الإنس والنمس» عن قصة لشريف عرفة وسيناريو كريم حسن بشير و«الممر» من تأليف وإخراج عرفة أيضًا.
في الدراما تُعرف هذه التيمة التي يبدو أنها تشكل عنصرًا حيويًا في عالم شريف عرفة برحلة البطل، حيث يتكرر لدينا نقاط بعينها تعني أن عرفة، سواء وضع بصمته على السيناريو أو اكتفى بالوقوف خلف الكاميرا، يرى أن رؤيته تتحقق من خلال تكرار التعاطي مع التيمة في أشكالها المختلفة، والتي تقترب فيها بعض المعالجات من التماثل أو التشابه حد النمطية والتوقع.
هل هذا يعني أنه يكرر نفسه؟
هذا سؤال جدلي مهم، ليس من السهل الإجابة عليه.
لو نظرنا إلى مجموع الأعمال السابقة فسوف نجد أن عرفة يميل لأن يتعامل مع تركيبته الخاصة في تشكيل رحلة البطل، فأبطاله لا يملكون قرار الانتقال من بيئة إلى أخرى، أو من البر الآمن إلى البحر المفتوح، فلا عبود ولا صلاح الدين ولا فريد ولا محي كان لهم الخيار في النقلة العنيفة التي حدثت لهم. والتي ترتبط ارتباطًا وثيق بشخصية الأب؛ سواء كان حاضرًا كما في حالة عبود أو غائبًا مثل «الناظر» أو «ابن عز» أو «فول الصين العظيم».
وفي أحدث تجاربه «اللعب مع العيال»؛ نجد أن بطله علام النخعاوي يعاني من تسلط أبيه وعائلة النخعاوية – التي تذكرنا بعائلة الشرقاوي في «فول الصين العظيم»- حيث يعمل مدرسًا رغمًا عن موهبته التي يرى أن التمثيل أحق بها، وسوف يجبرونه على الزواج من قريبته صاحبة الجسد الممتلئ (ويزو) من أجل الحفاظ على بيزنس العائلة في التعليم غير المجاني، وهو قرار اضطراري لا يملك دفعه، ولكن يترتب عليه مثل كثير من أبطال أفلام عرفة: أن يهرب أو يواجه مصير المضطر.
وبالعودة إلى «مافيا» و«الإنس والنمس»، سوف نجد أن شخصيات الأبطال تعاني من نفس الاضطرار بشكل جلي، الأول يهرب إلى الخارج مضطرًا من أجل البحث عن عمل، ثم يتم تجنيده رغمًا عنه، ويصبح عليه أن يواجه معركة ربما ليست معركته من البداية، كي يتحول من شخص لا منتمي إلى شخص منتمي- وهو نفس تحول بطل اللعب مع العيال بالمناسبة- أما الثاني فيقع في مؤامرة طريفة لتحسين نسل عائلة من الجن لم يكن يدري عنها شيئًا قبل أن يتزوج من ابنتهم، ويضطر إلى أن يوفي بواجباته الزوجية.
ناهينا عن أن شخصية الأب في تجلياتها المختلفة، تظل حاضرة بصورة أو بأخرى وفي ارتباط وثيق مع حركة الشخصية ومشاعرها وأفكارها ومصيرها في الفيلمين؛ سواء جمال اسماعيل في مافيا أو عمرو عبد الجليل في الإنس والنمس.
اللمبي
في كل رحلة بطل هناك مُعلِّم أو دليل، يهبط معه إلى العالم السفلي الذي تضطره الظروف سواء كانت أسرية أو عاطفية أو مادية أن ينتقل إليه، في رحلته المليئة بالمغامرات والطرائف أو الأهوال. وأحيانا ما يكون هذا المُعلِّم أو الدليل صديقًا للبطل، وأحيانا هو شخصية تعرف مفاتيح العالم الآخر الذي ينتقل إليه أو يضطر البطل إلى أن يلجأ إليه من أجل المساعدة والدعم.
أشهر شخصيات ذلك المُعلِّم في عالم شريف عرفة هو (اللمبي) – محمد سعد-، الذي ظهر لأول مرة في فيلم «الناظر» – وهو أحد تشكيلات الكاتب أحمد عبد الله من قبل الناظر ومن بعده- والذي يلجأ له صلاح الدين من أجل أن (ينحرف)، لكن يتبين له أن اللمبي ما هو إلا نسخة شعبية منه تدعي (الصياعة) بينما هو (على باب الله).
مثلت شخصية «اللمبي» أيقونة العشرية الأولى من الألفية بالنسبة للكوميديا في السينما المصرية، ومن أكثر الشخصيات التي أثارت جدلًا نقديًا وجماهيريًا خاصة بعد أن تم تقديمها في فيلمين منفصلين عقب نجاح «الناظر» عام 2000.
في اللعب مع العيال يعيد عرفة إنتاج «الناظر» على مستوى قضية التعليم المخلوطة بالحديث الدعائي عن التاريخ والاندماج بين أنسجة المجتمع المصري، ويحاول استنساخ واحدة من شخصياته الأثيرة كما سبق وأشرنا، فيأتي باسم سمرة ليقدم شخصية أبو مغزوم – الذي هو في الأصل يدعى عمرو- ليقتحم عالم المدرس المذعور ويورطه معه في أزمات تخص تجارة المخدرات – التي تذكرنا بسياقات عبود على الحدود- مرورًا بمحاولته تعليمه الشر – كما حاول اللمبي قبل ربع قرن أن يعلم أبو صلاح ابن الناظر الخطورة و(الصياعة) مرددًا شعار (هتقولهم لي نيللي نيللي هقولهم لك شريهان شريهان).
وصولًا إلى أن يتحول أبو مغزوم نفسه إلى خصم للمدرس – وهو التطوير الذي يدخله عرفة هذه المرة على اللمبي بعد أن صاحب أبو صلاح كثيرًا- بسبب كراهيته لمادة التاريخ – والإشارة واضحة بالطبع- ومحاولته ارهاب المدرس كي لا يلقنه للطلبة عن طريق التمثيل – الذي هو شغفه الأساسي- مذكرًا إيانا بدعوة الناظر صلاح الدين للطلبة أن يجتهدوا في دراساتهم من أجل دخول مسابقة أوائل الطلبة للحصول على (موتسكيلات وعجل وكومبيوتر وجبة من الكانتين اللي مش عايزين تقربوا له ابدا، وترابيزات بلياردو وبنج).
في كثير من أعمال عرفة يظهر «لمبي ما» بين حين وآخر، في ابن عز على سبيل المثال كان هناك محاولة لدفع محمود عزب أن يصعد ليكون لمبي جديد، لكن الكل فشل في تحقيق ذلك بما فيهم الفيلم نفسه، الذي يعتبر أكثر أفلام رباعية أحمد عبد الله خفوتًا مع عرفة. وفي مافيا ظهر أحمد رزق في شخصية مهندس الاتصالات المسيحي الشهواني الهارب من (بولين) الخطيبة المستقبلية الذي يريد القسيس تزويجه منها رغم دمامتها الشديدة، وكلها تنويعات على اللمبي حسب ما تحتمل البيئة الدرامية والموضوع وشخصية البطل.
بعيدًا عن السداسية
هل كان محمد عادل إمام هو السبب الرئيسي في أن يستلهم شريف عرفة رحلة البطل من فيلم الإنسان يعيش مرة واحدة لوحيد حامد – من إخراج سيمون صالح-
ربما لو نظرنا إلى سداسية حامد وعرفة، نجد أنه من المنطقي أن يكون الإنسان يعيش مرة واحدة هو الفيلم الذي يمكن لعرفة أن يتماهى معه من بين الكثير من أعمال الكاتب الكبير، بما فيها الأعمال التي قدمها عرفة نفسه.
هذا فيلم يحتوي على رحلة البطل في شكلها الأثير بالنسبة له، في مقابل أن السداسية ترتكز على عناصر يلعب الثبات فيها خاصة على مستوى المكان والجغرافيا دورًا مهمًا. القاهرة أو القاهرة الكبرى هي ملعب وحيد حامد الأساسي في تجاربه مع عرفة، بداية من «اللعب مع الكبار» الذي يتحرك بين أحيائها وطبقاتها المختلفة، ثم «الإرهاب والكباب» الذي يرتكز على مكان أيقوني واحد في قلب القاهرة- مجمع التحرير-، ثم «المنسي» في مكان أيقوني آخر هو هامش المدينة (كشك السكة الحديد)، ثم الانتقال من الهامش الأبعد أو الأقاليم إلى القاهرة (البلد دي اللي يشوفها من فوق غير اللي يشوفها من تحت) في «طيور الظلام»، ثم العودة للحركة في كامل المدينة مرة أخرى خلال «النوم في العسل»، وهو نفسه ما يعاد تقديمه بصورة تجمع ما بين الانتقال من الهامش والحركة في المدينة والصراع الطبقي في خاتمة السداسية «اضحك الصورة تطلع حلوة» والتي يبدو أن عرفة وحامد جمعوا فيها كل ما سبق وأن شكل تجربتهم الرائعة عبر سبعة أعوام متتالية.
العالم في أفلام حامد مع عرفة هو عالم ثابت لأنه جزء من الخصومة، ملامحه لا تتغير ولكنها تنكشف تدريجيًا مع صعود البطل في خضم الصراع؛ سواء كان طبقيًا مثل «المنسي» أو «اضحك الصورة تطلع حلوة» أو اجتماعي سياسي مثل «اللعب مع الكبار» أو «الإرهاب والكباب» أو «طيور الظلام» أو «النوم في العسل».
وشريف يحب الحركة في الجغرافيا، يشغله الانتقال الكلي من بيئة إلى أخرى، ومن عالم إلى آخر، ويحفزه الترحال إلى بيئات غير تقليدية – حتى أصبحت سيناء بقعته الجغرافية الأثيرة- والبيئة التي يواجهها بطله عادة ما تمثل واقع محدد تقليدي. لكن المكان أو المدينة لدى حامد في أفلامه مع عرفة – أو آخرين- هي مجاز دائم، كناية متعددة التأويلات، تعكس واقع معنوي أكثر مما هو مادي، إنه ليس مجمع التحرير؛ بل هي مصر، إنها ليست فيلا أسعد ياقوت أو كشك السكة الحديد، إنها سيكولوجية الحوار بين الطبقات، أو كما يقول ياقوت للمنسي (مشكلتك أنت وأمثالك من الهاموش والهلافيت انهم بتيجي عليهم لحظات بيتصوروا انهم حاجة) ولا ننسى بالطبع أم سيد وهو تحدث ابنها أسفل العمارة الزجاجية الضخمة مرتجفة من هول ما يشير إليه الكيان المرعب (احنا صغيرين قوي يا سيد).
إذن فمن المنطقي ألا يلجأ عرفة إلى موتيفات من السداسية، خاصة على مستوى الحركة والمكان، بل يجد في رحلة مدرس التاريخ إلى السلوم هدفًا جيدًا للاقتباس خاصة مع وجود النسخة الحديثة – الباهتة- من البطل هاني سلطان.
في السداسية يحضر المجاز والتأويل والعمق السياسي والنظرة الاجتماعية التحليلية والنقدية للواقع المصري والحياة في قاهرة التسعينيات، حيث العشرية الأخيرة من القرن المضطرب، أما في غالبية أعمال عرفة التي جاءت بعد مرحلة وحيد حامد فلن نجد فيها أي مما سبق، بل تدريجيًا يتخلص عرفة من العمق بالطفو نحو السطحية، ومرور الكرام على الشعارات والخوض في الدعائية، باستثناء شذرات عابرة في تجربة مثل «الجزيرة 1»، وهو ما يدعو للتعجب، خاصة أن سداسيته مع حامد وتجربته الكوميدية الملفتة مع عبد الله – خاصة في عبود والناظر- كانت توحي بأن التركيبة يمكن أن تتجه إلى ما هو أكثر أصالة ومغامرة وإبداعًا، لكن مع كل تقدم حثيث فيما بعد مرحلة وحيد حامد كانت الارتدادات تأتي عنيفة ومربكة حتى بالنسبة لجمهوره الوفي، ويكفي أن نضع كارثة سينمائية مثل تجربة «الكنز» في ميزان التقييم الإبداعي لنجد أن وزنها لا يعادل ريشة واحدة من جناح السداسية، ولا حتى في رقبة عبود والناظر رغم كونهم أكثر خفة وشعبوية.
من حلاوة إلى كمامة
علاقة شريف عرفة بالمرأة في أفلامه علاقة متغيرة المراحل ومتباينة التوجهات!
عرفة الذي بدأ مع سعاد حسني في الدرجة الثالثة 1988 مكرسًا طاقته الشابة من أجل المغامرة الشكلية مع الممثلة الكبيرة، نجده يستمر بقوة الدفع وبصورة أكثر نضجًا وحساسية – في مرحلة الكاتب ماهر عواد- عبر فرقعات «سمع هس» و«يا مهلبية يا». في هذه المرحلة كانت المرأة هي البطل رغم الحضور الذكوري المفرط في الأفلام الثلاث، ويكفي أن ننظر إلى نموذج حلاوة في سمع هس بكل قوتها وعنفوانها ودعمها المطلق لزوجها حمص ومشاركتها إياه ثنائيات الجنس والألم، والإحباط والمقاومة (على ما تهل سنة ألفين) يمنحها ثقلا دراميا وأيقونيًا ملفتًا في بدايات عرفة، والتي يمكن اعتبار أن التمرد فيها على الشكل كان قائما على عنصرين أساسيين هما (العنف والسخرية).
فيما بعد ومع دخوله لعالم وحيد حامد سوف نجد أن المرأة صارت تمثل في مجمل حضورها الغريزة أو الجنس أو الجموح أو خيبة الأمل، وليس في هذا هدرًا لقيمة المرأة الإنسانية، بل هو التوظيف الذي يمكن أن نرى تجلياته في اللعب مع الكبار من خلال علاقة حسن بهنسي بهلول بهناء جارته وخطيبته ومشاهدهما الطريفة والمفعمة بالرغبة في إطفاء شهوة المُحبطِة حتى ولو على مكتب الضابط في مبنى أمن الدولة.
و في الإرهاب والكباب والتوق المفعم لتفريغ الهم العام في ليلة الخميس المقدسة بالنسبة للموظف الأصيل أحمد، الذي يخفي زجاجة بيرة وحيدة في ظرف حكومي أصفر بالثلاجة من أجل الموعد الأسبوعي الثابت.
وهناك بالطبع يوسف المنسي بأحلامه الشهوانية وهو يرى دينا الراقصة وهي تأتي له متمايلة على (قضبان) السكة الحديد، مرورًا بالعاهرة الصاعدة سميرة التي تصل بالمحامي فتحي نوفل إلى أن يسيطر على الوزير من أجل تطبيق حكمته السياسية (احنا ناس الباطل بتاعهم لازم يكون قانوني) وصولًا إلى ذروة التأويل والترميز والفضيحة التي أصابت مجتمعا بأكمله بالعقم الجنسي في النوم في العسل.
وبمجرد أن تنتهي علاقة شريف ووحيد، ومع صعود النظرة المحافظة للسينما في بداية الألفية الجديدة، ينحسر دور المرأة غالبًا في أفلام عرفة، خصوصًا في مرحلة أحمد عبد الله، وهو كاتب أخلاقي جدًا في حكمه على حركة شخصياته ومصائرهم، وتقريبا يستنسخ نفس النمط من الشخصيات النسائية في أعماله مع شريف، والذي يمكن اعتبار شخصية وفاء في «الناظر» التي قدمتها بسمة نموذجًا جامعًا له.
وحتى خارج تجربة عبد الله/عرفة سوف نجد أن منى زكي في مافيا تلعب نفس الدور الداعم والسنيد لرحلة البطل وأزمته وصراعه. وهو نفس الدور الذي تلعبه دنيا سمير غانم تقريبا في إكس لارج، مع فارق قصة الحب الطريفة.
ثم يبدأ حضور المرأة في التأرجح ما بين الاعتماد الكامل على الرجل في أن ينقذها مثل «أولاد العم»، أو أن تصبح هي مصدر الشرور والآثام. لكن يظل انحسار حضورها هو الشكل الأكثر وضوحًا في سينما شريف عرفة على مدار أكثر من عشرين عامًا من تجربته، وبالتالي يمكن بسهولة أن ندرك لماذا بدت شخصية «كمامة» البدوية في اللعب مع العيال كأنها مرت علينا من قبل بنفس الروح والهيئة ومساحة الحركة، بما يتجاوز حتى إشارتنا السابقة عن شخصية البدوية في الممر أو حنة في شمس الزناتي، إن أسماء جلال في اللعب مع العيال تقدم نفس النمط الأثير لدى عرفة في نصف الأفلام التي قدمها، فهي محفزة، داعمة، محبة، مضحية، جريئة، بل أن شخصيتها تبدو أقوى أحيانًا من شخصية البطل الذكر؛ لكنها تظل في النطاق الآمن للسنيد والأكثر طراوة بالطبع من الصديق الخشن أو المُعلِّم اللمبي.
في النهاية نعترف بأن اللعب مع العيال منحنا فرصة لتأمل طويل في رحلة واحد من أبرز الأسماء في صناعة السينما المصرية خلال ثلاث عشريات متتالية، مفعمة بالاضطراب والتنوع والذرى والانتكاسات، ورغم كونه فيلمًا خفيفًا ربما تصلح مشاهدته مع وجبة غداء منزلية؛ إلا أنه يحمل جينات صانعه التي تشكلت على مدار كامل الرحلة التي لا ندري كيف ستكون محطتها التالية؟ وهل سيكون هناك المزيد من (العيال) أم أن اللعب سيتوقف أخيرًا بعد أن لوث مكانة (الكبار) التي حققها هذا الموهوب المغامر الذي تحول بالتدريج إلى مصدر إحباط مع كل تجربة جديدة تحمل اسمه المميز.
اقرأ أيضا: «ولاد رزق 3: القاضية»… اخدعني ثلاث مرات وأنا راضٍ