«هل سأظل أحب ابني إذا تبنّى أفكاراً راديكالية نقيضة لأفكاري؟». من هنا ينطلق الفيلم الفرنسي «اللعب بالنار – Jouer avec le feu» لدلفين وموريال كولان المعروض في مسابقة مهرجان البندقية السينمائي (28 أغسطس – 7 سبتمبر)، لكن المخرجتين الشقيقتين على قدر من الحنكة، ذلك أنهما موضعتا هذه الفكرة في سياق سياسي متوتر يلقي بظلاله على حاضرنا؛ صعود اليمين المتطرف في فرنسا وأوروبا والغرب عموماً.
يصعب الاستخفاف بالسؤال المطروح، فهو يحمل إشكالية حقيقية. نعم، من السهل جداً إبعاد غريب من حياتنا بسبب أفكاره، في المقابل ما الحل عندما تجمعنا بهذا الشخص روابط دم؟ هذا بالإضافة إلى الذنب المتولد عند الأبوين اللذين سيعتبران أنهما كانا مقصرّين على مستوى التربية. في النهاية، هذا فيلم عن صراع أجيال، أو بشكل أدق صراع بين جيل لا يزال متمسّكاً بمثاليته وآخر يقف أمام حائط مسدود، فلا حلّ للأخير سوى الشعبوية.
يحاول الفيلم إيهامنا بأنه لا يحمل رسالة جاهزة ولا يدق ناقوس الخطر (ولو أنه يفعلها نوعاً ما)، ولا يطرح نموذجاً للتفكير الصائب والصحيح، ولا يوزّع الخيارات بين صح وخطأ، ولو أن الخطأ الوحيد هنا هو اليمين المتطرف، لا اليسار المتطرف مثلاً.
كلّ ما يفعله هو تعريفنا بالمعاناة المتصاعدة لعائلة تتألّف من أرمل في الستينات من عمره يعمل موظّفاً في السكك الحديد، ينضم أحد ابنيه الإثنين إلى تنظيم راديكالي، أعضاؤه من النازيين الجدد الذين يكرهون كلّ ما ليس فرنسياً ويعادون المهاجرين وغيرها من الأمور التي تأتي في نوع من سلّة كاملة متكاملة تواكب أفكار أقصى اليمين، في مقدّمها نظريات المؤامرة.
بيار (هذا اسم الأب الذي يضطلع بدوره ببراعة فنسان لاندون)، سيجن جنونه عندما يعرف طبيعة الورطة التي سقط فيها ابنه، ولأنه أب ولديه شيء من الحدس، يستشف الخطر الذي ينتظر ابنه. سيفعل الكثير لتجنّب الأسوأ، لكن هل يمكن إنقاذه أم أن الأوان قد فات؟!
يتناول الفيلم قضية صعود التعصّب أو عودته القوية (شأن العديد من أفلام هذه الدورة من «الموسترا»)، بعيداً من أي خطاب إصلاحي. يتعامل مع الواقع كاشفاً أبعاده النفسية والاجتماعية والسياسية، متطلّعاً إلى العالم من داخل عشّ العائلة وأفرادها وفردانيتهم، مناقشاً حدود كلّ فرد فيها، والمسؤولية التي تقع على عاتق الجميع، ولو بنسب متفاوتة.
التطورات الدرامية هي التي ستقود القصّة. سنرى كلّ شيء من خلال الممارسات التي سينجر إليها الابن الضال، مورطاً والده وأخاه، متسبّباً بتفسّخ العائلة وانهيار تماسكها. الفيلم سيتعقّب «على الدعسة» كلّ مراحل التطور هذا.
الجرح الذي سينكأه الفيلم سيكون موجعاً للأب الذي خسر زوجته وصارت حياته خلفه، كما يقول في أحد المشاهد. لكن المشكلة الكبرى تتجسّد في الابن الذي يُستدرج لفخ الأفكار التي وقف ضدها الأب طوال حياته، ولا تمثّل شيئاً من القيم التي ربى ابنيه عليها. في أي عالم سيعيش هؤلاء، غداً وبعد غد، هذا إذا تمكّن من الخروج من المأزق الذي سيجد الابن نفسه فيه، نتيجة تصفية حسابات بين معسكرين إيديولوجيين نقيضين يتصارعان لفرض وجودهما وإلغاء الآخر.
أحد أبرز المواضيع التي يناقشها الفيلم هو الأبوة، من خلال دورها وحدودها ومسؤولياتها، خصوصاً في غياب الأم. الأب هنا رمز للسلطة ولكن سلطته تختلف عن سلطة الدولة الموضوعية. حبّه لابنه غير مشروط بفكرة أو سلوك، خلافاً للدولة التي تعاقبه عندما يخطئ. الأب لا يعاقب، بل يحاول التخفيف من عقابه، عبر ربط المسؤولية بنفسه.
دور الأب مزدوج: الإرشاد والحبّ في آن واحد. كيف يمكن التوفيق بين هذين الوجهين للعلاقة؟ هنا المعضلة الأبوية التي ستتفجّر في وجه الجميع، في لحظة سياسية واستقطابية حسّاسة ودقيقة.
على مستوى الرؤية السينمائية، الفيلم غير مقل باللقيات، لا سيما في بعض المشاهد التي تصوّر نشاطات ذات طابع رياضي ينظّمها المتطرفون. تنقل المخرجتان هذه البيئة الهورمونية برؤية بصرية فريدة. نجد أنفسنا في جو خانق يضغط على الأعصاب ويقول شيئاً عن السواد الذي سنقبل عليه.
نحن هنا حيال سينما فرنسية ذات علاقة قوية بالواقع، ناتورالية، فيها لحظات تحمل تكوينات بصرية مشغولة بعناية، وأخرى أقصى ما يهم فيها هو المضمون وما يحدث داخل الكادر.
في محاولته لإنقاذ العائلة، والتعامل مع المستجد في حياته بحكمة وتفان وإخلاص، يسحق لاندون القلب. يكفي أن ترميه في أي مكان ليخرج منه بفيلم. لاندون هو السيناريو والإخراج والتمثيل في جسد واحد. جامع كلّ الأطراف. نوع من خلاطة مولينكس، تضع فيها مواد مختلفة فيخرج لك بعصارتها.
اقرأ أيضا: تفاصيل ختام وجوائز الدورة 81 من مهرجان البندقية السينمائي