قاتل وحيد وبارد، منهجي وخال من أي وازع أو ندم، ينتظر في الظلمة هدفه التالي. كلما طال انتظاره، كلما اعتقد أنه فقد عقله، أو على الأقل أعصابه. هو قاتل مأجور، منظم ومحترف. بعد فشله للمرة الأولى في «وظيفته»، ينتهي به الأمر هدفاً لإحدى المهمات التي ينفذها عادةً.
قصّة «نوار» (Noir) جديدة وحشية ودموية وأنيقة
مع فشل مهمته، ينهار عالمه المريح، يتأذّى مَن يُحب، وينطلق هو في رحلة انتقام محاولاً إعادة ترتيب حياته. «التزم الخطة، استعدّ، لا ترتجل» يقولها دوماً، لكن غالباً ما يكسر قاعدته، لأنه يتصرّف ضد نفسه. ينهار جانبه المحترف، بعد أن يرى الضرر الذي لحق بمن يحبّ بسبب فشله، وتبرز شخصيته الذاتية، ويسقط قناعه، وتسيطر عليه عواطفه ويبدأ بالتصرف على ضوئها. وفي غضون ذلك، هو يكذب باستمرار علينا، وفي الغالب على نفسه. «القاتل – The Killer (2023)» (مايكل فاسبندر) الذي طرح أخيراً على نتفليكس، قصّة «نوار» (Noir) جديدة وحشية ودموية وأنيقة عن قاتل محترف ضائع في عالم بلا بوصلة أخلاقية، دراسة لرجل وحيد مدجّج بالسلاح يفقد عقله ببطء.
جديد المخرج الأميركي ديفيد فينشر لا يشبه خطة شخصيته. الأهداف التي حددها فينشر اثناء التصوير والمونتاج تنفَّذ بالحرف بدون هامش للمصادفة أو لقرار متعجّل. على العكس، صُنع «القاتل» بالطريقة والمفهوم والخصائص نفسها التي تشكل جوهر السينما التي يصنعها فينشر منذ ظهوره الأول عام 1992 مع فيلم «Alien 3».
يسجّل فيلم الإثارة والتشويق المستوحى من كوميكس للفرنسي اليكسي نولان المعروف بـ«ماتز»، أيضاً عودة رائعة لمايكل فاسبندر، الذي ترك التمثيل عام 2019، ليكرّس وقته لسباق السيارات. قد يذكّرنا أداء فاسبندر الإيحائي بفيلم جان بيار ملفيلل «الساموراي» (1967)، الذي أظهر فيه جيف كوستيلو الذي لعب دوره العظيم آلان ديلون، برودةً مماثلة لـ «قاتل» فاسبندر، مع فارق يتمثل في أنّ الوسيم الفرنسي لا يزال يشع أناقةً لا مثيل لها، فيما شخصية فاسبندر تبدو مستنسخةً أو مقلدة.
يوجّه «القاتل» نقداً اجتماعياً لاذعاً للمجتمع الاستهلاكي، فبطل العمل يتحرك مثل سمكة في الماء، يشتري ما يحتاجه على «أمازون»، يحدّد مهامه على خرائط غوغل، ويتناول السعرات الحرارية التي يحتاجها من أقرب مطعم لماكدونالدز. لكن في قلب الفيلم، هناك نظرة فلسفية إلى الطبيعة المأساوية لبطل الرواية، الذي يسافر عبر العالم محكوماً عليه بالوقوع في الخطأ مراراً وتكراراً، كما لو أنّنا أمام سيزيف معاصر.
يصنع فينشر واحداً من أكثر أعماله دقةً وصرامة. وعلى الرغم من أنّ القوة الدافعة للقصة تخلو من المفاجآت، إلا أن أعظم فضائل الشريط تأتي من بنائه السردي. يختار فينشر المسار الأكثر مباشرةً، يجرّد قصته من أي عنصر يهدّد طريقها الثابت. يتجنب بشكل واعٍ التقلبات المفاجئة، فهو يلعب بأوراق مكشوفة. نقص السرد يمكن أن يكون في بعض الأحيان مربكاً، وهناك احتمال أن يؤدي هذا النوع من الرتابة الدائرية إلى إغراق المُشاهد في الضجر، وبعض المَشاهد قد تكون أكثر فعالية لو رويت فقط بمساعدة الصور من دون تعليق صوتي. لذلك، نظراً إلى قلّة الابتكار السردي، والتوجه نحو الكلاسيكية، اللذين خدما الفيلم في أماكن كثيرة، يمكن التعامل مع عمل فينشر بشكل أكبر من الجانب الفني والتقني. يقترب اللعب بالضوء والظلال وأيضاً أضواء النيون، من الجانب «الأسود» من الفيلم، والاستخدام الساخر والجاد لموسيقى فرقة «ذا سميثز»، يدمج المُشاهد بشكل مثالي مع الموسيقى التصويرية لترند رزنور. حركات الكاميرا ثابتة إلى حد كبير، مما يؤكد على شخصية القاتل الهادئة، لكن عندما يتعلق الأمر بالهروب أو مشهد الحركة، فإن التركيز يكون على العمل اليدوي للكاميرا ونبرة الصوت المضطربة. على الرغم من كآبته، لا يستطيع فيلم «القاتل» إنكار مخرجه، حيث الفكاهة السوداء الجذّابة حاضرة في التوقيت المناسب. وكعادة أفلام فينشر، فالحماقة تجعل المواقف المتوترة تافهةً، ولكن محبّبة.
اقرأ أيضًا: عن ” مَندوب“ الرياض