عادة ما تعتني الأفلام جيدة البناء باللقطة الأولى أو المشهد الأول الذي يمكن أن نتوقف في أي مرحلة أو فصل أو مشهد من الشريط ونجد أنه يرتبط بها عضويا دون افتعال أو مباشرة، هذا المنهج حاول اتباعه فيلم «الفستان الأبيض»، المشارك حاليًا في مسابقة الأفلام الروائية بمهرجان الجونة السينمائي، لكن التحليل يكمن في سؤال: هل نجح في مسعاه؟
يبدأ «الفستان الأبيض» بمشهد لوردة (ياسمين رئيس) بينما تقف لتمارس عملها في أحد المطاعم الشعبية، نراها أمام قلاية البطاطس تضع الشرائح في الزيت المغلي، وبين دخان القلي الساخن تتابع على الإنترنت تصميمات فساتين الزفاف البيضاء بمختلف الأشكال.
في فيلمها الروائي الأول، تقدم لنا المخرجة والكاتبة جيلان عوف عالم «وردة»، الشابة الجميلة ابنة الطبقة الدنيا، الطبقة الأكبر عددا وانتشارًا في المجتمع المصري، تلك الطبقة التي تواجه خشونة وقسوة الحياة والضغوط الاقتصادية إلى حدود مأسوية. وردة وطبقتها يمثلون البطاطس المقلية في زيت المعاناة الاقتصادية الملعونة. تحمل على كتفيها الصغيرين ميراث عفن من السياقات التي تقدس نظرة الناس والشكل العام والضرورات الفارغة المعنى، تمثلها الأم سلوى محمد علي التي تؤنب ابنتها طوال الوقت على تأخرها في إحضار الفستان الأبيض، في ظل أزمة حضارية واجتماعية طاحنة، ووسط مجتمع استطاع أن يحول بديهيات (الحياة الكريمة) أو الطبيعية (كالحب والزواج) إلى أهداف من الصعب أن تتحقق دون أن يقفز الراغب في تحقيقها عبر حلقات مشتعلة كأنه لاعب في سيرك شعبي رخيص، مع احتمالية أن تطاله النار في كل الأحوال.
تلتزم المخرجة بوحدة الزمان والمكان والموضوع، فالزمان هو يوم وقفة العيد قبل موعد زفاف وردة بيوم، والمكان هو القاهرة؛ النموذج الدنيوي لعاصمة جهنم بكل تفاصيلها التعيسة والمربكة. والموضوع هو رحلة البحث عن الفستان الأبيض التي تخوضها وردة مع وصيفتها الدرامية بسمة – أسماء جلال في قفزة أدائية جيدة تحسب لها سينمائيا.
بالطبع دلالات الأسماء لا تحتاج إلى تفكيك! فالبطلة في ظل معاناة البحث عن الفستان في ليلة العيد، ذروة موسم الزواج في مصر، هي وردة وسط ركام القلق والإحباط، وبسمة بخفة ظلها ولطافتها وحجابها «المودرن» وشعبيتها الطريفة هي الصفيّة وحاملة لواء تخفيف حدة المعاناة على البطلة.
التزمت جيلان كذلك بالمبدأ الكلاسيكي في رؤيتها الواقعية للحكاية، حيث يخلق هذا القدر من الالتزام حالة التراكم الشعوري والنفسي المراد أن يصل الأبطال إليه في رحلتهم؛ إما صعودا نحو المواجهة، أو هبوطًا نحو الفشل، أو الوصول إلى توازن التحقق النسبي.
تحاول جيلان أن يبدو فيلمها «مشغولًا» أي متداخل التفاصيل بشكل يصنع منه نسيجًا مركبًا وزُخرُفًا دراميًا وحواريًا، ومشغول بمعنى الانشغال بالقضايا الاجتماعية التي تعاني منها شريحة وردة وطبقتها المطحونة اقتصاديًا.
يحتوي بناء الفيلم على قدر لا بأس به من التفاصيل التي تدعم خلفية الحكاية، بل ربما تخلق تلك التفاصيل نفسها الحكاية. على سبيل المثال تعكس افتتاحية الفيلم مدى هوس الأم بمسألة نظرة الناس إلى ابنتها وفرح ابنتها بداية من جلبها لمصور لكي يصور الخراف في الشارع، التي يُفتَرَض أن تُذبح يوم العيد، صبيحة الفرح- مرورًا بتندرها على ذهاب العروس لاستلام فستانها من الجمرك ليلة الزفاف رغم أنه «فستان صيني» دون أن تدري بالطبع أنها تتعرض للخديعة من ابنتها التي لم يتمكن عريسها من شراء الفستان. وصولا إلى طلبها أن تضع الابنة بعض المكياج في طريقها للخروج لأن الناس تحب أن ترى العروس ملونة دائما.
ولكن بمجرد خروج وردة وبسمة إلى الشارع أو الشوارع في رحلة البحث وبعد انتهاء الافتتاحية المتقنة على مستوى الشكل والإيقاع تبدأ أزمة الفيلم في الظهور تدريجيًا على سطح محطات الرحلة.
في تجربتها الأولى لا تتمكن جيلان من تأجيج روح المغامرة بشكل يشد حاسة التلقي إلى مذاق جديد أو مختلف، تدخلنا التجربة في حالة ارتداد إلى الثمانينيات، حين ظهرت موجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية، وما تلاها من تجارب شكلت ميراث الواقعية الحميمي والأصيل، تدور رحلة وردة ما بين «كومباوند» حيث تعمل خالتها – أم بسمة- في قصر صغير يعكس حجم التفاوت الطبقي الرهيب بين طبقة وردة وهؤلاء الذين يسكنون في كوكب آخر، ممنوع فيه التصوير حتى لا تتعرض فخامته للخدش من قبل من هم خارج البوابات، البوابات التي يقف عليها شباب مثل الورد بمؤهل عالي ونفس دفعة وردة التي درست صحافة، ولكن انتهى بها الحال أمام قلاية البطاطس المشتعلة بزيتها الرخيص.
ومن «الكمبوند» إلى الجاليري الفخم في الزمالك، ومنه إلى كوافير شعبي، إلى منزل أسرة فقدت عائلها – وهو مشهد غير مفهوم وغير منطقي أو مقنع- ومنه إلى زفة شعبية في الشارع تنبثق فجأة من الفراغ وهي زفة لصديقة من أصدقاء وردة، ولا ندري لماذا لم تلجأ لها من البداية كي تستعير منها الفستان، والذي نكتشف أنه ليس أبيض، ولكنه وردي وبالتالي لا يصلح للدخلة لأسباب تتصل بالعادات والمفاهيم الشعبية، وصولًا إلى مؤجرة اكسسوارات السينما التي تمنح البطلة ووصيفتها فستانًا بالفعل، ولكنهما تتعرضان لتجربة تحرش مؤلمة وشديدة الافتعال والركاكة أداءً وتصويرًا وصياغة.
هكذا يريد السيناريو للرحلة أن تبدو من الأعلى إلى الأسفل، وكأننا نهبط إلى قاع الجحيم مع البطلة، وهو بناء جيد بالمناسبة على مستوى الشكل لكن أزمته الحقيقة في محتوى المحطات نفسها وأسلوب التعاطي معها الذي يفتقد إلى قدر كبير من التماسك والروح والتأثير.
نحن أمام فيلم يبدو وكأن القضايا التي شغلت جيل الواقعة وما بعده لم تتغير – وهي حقا لم تتغير كثيرًا، ولكن الاعتماد على أسلوب المواجهات الكلامية العنيفة والتي يراد بها خلق جمل انفجارية تعبر عن أزمات الشخصيات وما تمثله من نماذج اجتماعية، جاء نمطيا جدا وهو تنميط انتقل غصبًا إلى الشخصيات نفسها فصارت نمطية، مكررة، تشبه شخصيات أخرى وشوارع أخرى وفساتين أخرى أيضًا.
هذه النمطية هي ما تجعل حجم التأثير الحاصل على الشاشة خافت الأثر نفسيًا وشعوريًا. هذه الشوارع التي تتحرك فيها وردة وبسمة، بمستواها المادي والمجازي، هي شوارع مر منها محمد خان وعاطف الطيب بأفلامهم، ثم مرت خلفهم هالة لطفي وماجي مرجان ومر أحمد عبد الله – الذي عملت جيلان مساعدة مخرج له في بداياتها- كل هؤلاء مروا من نفس الشوارع التي لم تعد تؤدى إلى ذات الذُرى أو التماس القوي مع الواقع المظلل برمادية الكآبة وانطفاء الروح.
تذكرنا رحلة وردة كثيرًا بأفلام اليوم الواحد التي خاض تجربتها خان في يوم حار جدًا، وداود عبد السيد في البحث عن سيد مرزوق، وخيري بشارة في إشارة مرور، وهالة لطفي في الخروج للنهار. ولكن ليست كثافة الزمن هي ما يشل التجربة شعوريًا، ولكن ما يحتويه هذا الزمن المكثف من إشارات خاضعة لمنطق التكرار الباهت، فالرحلة لم تكن دسمة بالقدر الكافي، ولا مغامرة أو جريئة أو مختلفة، حتى في إشارتها العابرة مثل حضور عزاء الرجل الذي سقط في بالوعة صرف مفتوحة، وهو المصير الذي تتنبأ به وردة لنفسها ومن هم في نفس طبقتها وشرحتها. ففي سنوات الثمانينيات والتسعينيات كانت حوادث سقوط الأطفال أو الأفراد في بلاعات (آبار) الصرف المفتوحة من أكثر الحوادث انتشار في الشارع المصري، نتيجة حالة تردي البنية التحتية أو سرقة أغطية البالوعات أو تهالك شبكات الصرف. وظهرت بعض الأعمال الفنية التي تتحدث عن مصير أشخاص سقطوا في تلك الآبار، ثم تدريجيًا اختفت الظاهرة واختفت معها الإشارات والدلالات التي كانت تمثلها.
يشعرنا الفستان الأبيض بمحطاته المختلفة أنه لا يزال يدور في تلك السنوات، سنوات «البلّاعات» المفتوحة، وكأنه تأخر في اللحاق بالحقبة التي كان يجب أن يظهر فيها، ثمة انفصال جزئي واضح بين الشخصيات والأحداث وبين الواقع كما نراه ونعيشه في قاهرة 2024، فوردة مثلا تذكرنا ببطلات أفلام خان، إنها فتاة كلاسيكية جدًا، حتى أنها حين تلتقي في الجاليري بشخصية معروفة نجد الشخصية ليست سوى مقدمة برنامج شهير، وليست من المؤثرين الجدد الذين يمثلون نجوم المجتمع المصري في تفاهته الحالية. تبدو بسمة أكثر اتصالا مع الجيل الحالي من وردة، التي لا تملك صفحة على فيس بوك ولا ندري حتى لماذا تريد أن تلتقط صورة مع مقدمة البرنامج الشهير.
حتى عندما تلجأ إلى البحث على الإنترنت، فإنه من بين آلاف الخيارات التي يمكن أن تظهر لها لا تعثر سوى على كوافير (موزمبليه) لتأجير الفساتين، رغم أن هذا غير منطقي تمامًا في ظل وجود معلومات بشكل غير مسبوق على محركات البحث وبشكل مفرط في وفرته.
يبدو الفستان الأبيض فيلم تسعيناتي لطيف أضيفت عليه بعض حواشي التحديثات الاجتماعية الجديدة، في الميكروباص نسمع أغنية «يا بنت السلطان» لعدوية، وحين تلتقي بزوجها المستقبلي لا ندري ماذا يعمل، لكنه يركب سيارة فولكس موديل السبعينيات، وحين يذهبون إلى صاحبة مخزن الملابس يطلبان منها واحدًا من فساتين غادة عبد الرازق من مسلسل زهرة وأزواجها الخمسة، فتقول لهم إن لديها فساتين من مسلسل «عائلة الحاج متولي». كل هذه التفاصيل تردنا إلى ما قبل عقدين على الأقل! وتسبب حالة ارتباك وتشوش لدى المتلقي، خصوصًا من نفس الشرائح التي تنتمي إليها وردة وبسمة.
من انكد مشاهد الفيلم وأكثرها فجاجة على مستوى الدراما والتنفيذ مشهد تعرض وردة وبسمة وصديقتهم الصغيرة إلى التحرش في الشارع وهم يسيرون حاملين الفستان لأن إحداهن أخطأت واخرجت قطعة ملابس داخلية في الشارع فتقاذفها الشباب ووجدوا في هذا دعوة لهتك خصوصية جسد الفتاة.
المشهد كله تنفيذيا كان يحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد التصوير البطيء والحركة العشوائية والجري والقفز وشظايا النار- فارق كبير مثلا بينه وبين مشهد تعرض نيلي كريم لفعل مماثل في فيلم 678 قبل أكثر من عقد كامل- ثم يأتي مشهد صدمة الفتاة روايتها لتفاصيل ما حدث معها وكأننا في برنامج تليفزيوني لا ينقصه سوى أن يقوم المخرج بتظليل وجهها وهي تحكي.
هذا المشهد الذي يأتي في نهاية الساعة الأولى من الفيلم يتبعه مجموعة من المشاهد التي من المفترض أنها تعكس قاع الإحباط الذي وصلت إليه وردة، والذي يدفعها إلى الشجار المفتعل مع بسمة ثم محاولة اقتحام الجاليري من أجل سرقة فستان الفرح على اعتبار أنه مجرد سلف مستحق، لإنها اكتشف أنها إن لم تأخذ حقها في الحياة الطبيعية بالقوة فلن تناله أبدًا.
يخفت نمو الشخصيات بصورة شديدة عقب مشهد التحرش، ترتبك الدراما وتتخبط حركتهم كل في مساره المفتعل، فجأة تقرر الأم أن تعيد خياطة فستان الفرح الخاص بها بالتعاون مع سيدات أسرتها، وهي التي كانت تقدس نظرة الناس وتهتم بالمظاهر الفارغة أمامهم، ولا ندري في أي لحظة تغير هذا الأمر، أو بمعنى أدق اسبابه التحول المنطقية والدرامية، وتحولات أخرى فاترة وغير مفهومة ولا تتسق مع منطق الشخصيات.
أخيرا يمكن أن نقول أنه ربما تملك جيلان عوف الكثير من المقومات الدرامية الجيدة التي تجعلها قادرة على بناء حكاية لطيفة، لكنها تحتاج إلى أكثر من مجرد المعرفة بالأصول، تحتاج إلى التحرر من أصداء التجارب التي تربى عليها خيالها، وتحتاج إلى فصاحة بصرية تخصها، لا ينازعها تأثر ولا تحية، ولا إعادة تدوير لأٍساليب أو حتى قضايا اعتصرها السابقون حتى جفت المشاعر تجاهها، وهي نفس النصائح التي عادة ما يمكن توجيهها إلى المخرجين في تجاربهم الأولى، فهناك جهد كبير يحتاجه العثور على العدسة الجديدة التي تحقق رؤيتهم الخاصة للواقع والسينما على حد سواء.
اقرأ أيضا: ماذا تشاهد في الدورة السابعة من مهرجان الجونة السينمائي؟