فاصلة

مراجعات

«الغريب»… الوطن هو ألا يحدث ذلك كله

Reading Time: 4 minutes

بعد مشهد افتتاحي قصير يقف فيه عدنان قبالة النافذة موليا ظهره إلى الكاميرا/المشاهدين ومتأملا في الأفق، فجأة، ينقطع المشهد وتنتقل الكاميرا إلى خارج النافذة حيث تستكين البيوت تحت سفح هضبة الجولان.

تستضيء الصورة بفعل قطع جديد يشير إلى تبدل النهار بالليل. تستقر الصورة للحظات قليلة تتحرك فيها ببطء سحابة من الدخان لتعلو البيوت. تتحرك سحابة الدخان في تؤدة ومثابرة لتغطي على الصورة ببيوتها الصغيرة وهضبتها السامقة فلا يبقى في الأفق سوى لون أبيض يثير الضيق والاختناق، بينما تدوي في الخلفية أصوات القنابل التي تتقاسم مع موسيقى جنائزية شريط الصوت لتكتمل الصورة: صورة الوطن.

«الغريب» هو أول الأفلام الروائية الطويلة للمخرج السوري أمير فخر الدين. فيلم ينم عن نضج فني غامر، يتمتع به المخرج الذي لم يكن قد تجاوز بعد الثلاثين من عمره وقت تصوير الفيلم.

على الرغم مما قد توحي به مقدمة هذا المقال، وبالتبعية افتتاحية الفيلم، من مشهدية رمزية؛ إلا أن الفيلم ينأى بنفسه عن أي رمزية تستجلب التأويل، ويغزل مشاهده من صور واقعية ناطقة بلغة السينما الأصيلة دون الحاجة إلى الكشف عن مقاصدها عبر الرمزية. والفيلم هو الجزء الأول في ثلاثية بعنوان «وطن».

جيفة في مجرى النهر

في تتابع قصير كما الحلم، يرى عدنان (قام بدوره الممثل الفلسطيني العالمي أشرف برهوم) نفسه واقفًا فوق جزيرة صغيرة في مجرى مائي، لا يتبين إن كان نهرًا أم بحيرة. وينظر من مكانه إلى هيكل عظمي لبقرة نافقة والأمطار تهطل من حوله. يقف عدنان للحظات يتأمل هذا الهيكل العظمي كما لو كان يتأمل ذاته الخربة. بقايا جسد فارقته الحياة، تمامًا كما جسده المتداعي من فرط السكر وروحه المفارقة لأي معنى أو حياة.

سافر عدنان في بداية شبابه إلى روسيا لدراسة الطب، ولكنه عاد قبل أن يستكمل دراسته ويحصل على شهادة تؤهله لمزاولة المهنة المرموقة اجتماعيًا. لا يخبرنا الفيلم عن السبب وراء تعثر دراسة عدنان في الخارج، ربما فشل في التكيف مع صقيع موسكو، أو غمره الحنين إلى الوطن. لا يهتم الفيلم بماضي بطله وإنما بحاضره. لا ينشغل كثيرًا بسبب عودته إلى الوطن، وإنما بحاضره الذي يحياه غريبًا بين أهله. ولعودة الابن انعكاس آخر على الأب (قام بدوره الممثل والمخرج الفلسطيني الكبير محمد بكري) الذي يشعر بوطأة العار من فشل ابنه الوحيد الذي يعود إلى بيته مخمورًا كل ليلة.

يعيش عدنان أيامه المتشابهة في سجن خانق، يعبر عنه المخرج بحبس بطله بين إطارات متنوعة داخل صورته السينمائية التي اختار لها منظورًا صندوقيًا (Aspect Ratio 4:3) تكون فيه أبعاد الصورة أقرب إلى الشكل المربع ويطلق عليها «نسبة الأكاديمية»، وهي النسبة التي شاع استخدامها في بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن العشرين.

فيلم الغريب

في المشهد الافتتاحي نرى عدنان يقف بين طرفي ستار شفاف انعكس عليه ضوء المصباح الأصفر، فبدا وكأنه يقف بين ألسنة اللهب الحمراء. يشعر عدنان بوطأة فشله وتطارده خيبة الأمل التي مني بها الأب الذي يحاول استرضائه بكل السبل. يقضي يومه في مرج التفاح الذي يملكه الأب. يكافح الظروف المناخية الصعبة بمحاولات عبثية بائسة لطرد البرد الذي يقتل المحصول فيجلب موقدًا صغيرًا وينصبه في منتصف المرج محاولا تدفئة أشجار التفاح. يسأله صديقه متعجبًا عما يفعل، فيجيبه بنبرة جادة: «مش راح خلي الصقعة تحرق لي الموسم كمان مرة».

لا يجد عدنان مهربًا من سجنه سوى السُكر. لا يحفل كثيرًا بنظرة مجتمعه الصغيرة، ولكنه يقف عاجزًا أمام نظرات الأب لجسده المترنح من فرط السكر آخر الليل.

الهيكل العظمي في مجرى النهر لم يكن سوى مجازًا بصريًا متكررًا بالفيلم يتجسد في بقرة الأب التي جف ضرعها وأصبح عصيًا على الحلب. في إحدى الليالي يحاول الأب يائسًا استدرار ضرع البقرة لبيع اللبن لأحد الجيران. تناشده الأم بالتوقف عن المحاولة، لكنه يتعلل بالبرد الذي أصاب البقرة فانقطع خيرها. في مشهد آخر يحاول عدنان استحلاب البقرة فينزل منها الحليب مختلطا بالدماء. يقوم مفزوعًا من المشهد ويفتح باب الحظيرة وهو يخاطب البقرة ويسألها الرحيل. تنظر البقرة إلى الباب المفتوح في ريبة وترفض الاستجابة. عدنان هو الآخر يرفض استجداءات زوجته بالرحيل. «ألمانيا، فرنسا، أي محل بعيد عن هون» تناشده الزوجة في نبرة يائسة فلا يجيب.

المخرج أمير فخر الدين

غريب يبحث عن بيته

في الطريق إلى منزل أحد الأصدقاء تتعطل سيارة عدنان فيضطر إلى التوقف. وفي تلك الأثناء تمر سيارة دورية عسكرية إسرائيلية، يسأله الضابط عن سبب وقوفه، فيخبره أن السيارة تعطلت. يعلق الضابط متهكمًا: أما آن الأوان لاستبدال تلك السيارة الخربة؟ فيجيب عدنان في نبرة معبرة: إنني متعلق بها. تمضي الدورية ويلمح عدنان خلف السياج الحديدي الذي يقسم الجولان غريبًا يسترق النظر من بين الأغصان.

الغريب هو ابن لأسرة هجرت من الجولان بعد الاجتياح الإسرائيلي في عام 1967، أخذه الحنين إلى بيت الطفولة الذي لا يعرف موقعه بالتحديد ولا يعرف عنه سوى صورة قديمة غائمة لا يبدو فيها سوى شجرة كبيرة. يخبره الغريب أنه يشعر بالحنين لتلك الشجرة لا إلى البيت. يسأله في لهفة: ألا تعرف تلك الشجرة؟ فيضحك عدنان: «الجولان كله سجر، كيف بدي أعرف؟».

الغريب

يمتد المجاز البصري عند أمير فخر الدين لما هو أبعد من فيلمه الأول وثلاثيته السينمائية، فشأنه شأن غريب فيلمه الأول، ابن لأبوين سوريين من هضبة الجولان، ولد في الغربة في كييف بأوكرانيا، وانتقل منها للعيش في هامبورغ بألمانيا. يرسم فخر الدين عبر فيلمه صورة ذاتية لوطنه الممزق بين المحتل والحرب الأهلية، ولهذا لا يخبرنا الفيلم عن مصدر إصابة الغريب.

باكتشافه للغريب يشعر عدنان بصحوة مفاجئة، وينتشي من فرط الإثارة التي تغمره. نشوة لا تضاهيها كل الخمور التي عاقرها في حياته. تحمل محاولته إنقاذ الغريب المعنى الذي افتقدته حياته، وكأنما أعطته الدنيا فرصة أخيرة للنجاة.

الغريب

يختتم أمير فخر الدين فيلمه بقصيدة لجبران خليل جبران، أعاد كتابتها بتصرف على لسان بطله يلخص عبرها مشاعر الغربة والوحشة التي تفتك به، وحنينه إلى وطن لم يعد يعرفه رغم أنه يقيم بين جنباته، وبحثه السيزيفي عن مخرج من هذا السجن الخانق. وحلم بالانعتاق من وطأة واقعٍ تهيمن عليه الغيوم والدخان.

اقرأ أيضا: من ثقب الباب.. التلصص بين تاريخ السينما المصرية وحاضر اليوتيوب

شارك هذا المنشور