من المعلوم أن ديفيد لينش لم يكن يومًا مهووسًا بمشاهدة السينما على طريقة مخرجين بارزين آخرين مثل مارتن سكورسيزي أو وليام فريدكين، بل قدم إلى السينما عبر بوابة أكثر عضوية وتجريدية هي الفنّ التشكيلي. ومن ثمّ يمكن تفسير رابطه الحسي الفائق مع الإخراج الذي يمرّ بدرجة أولى عبر استشعار المناخات، والحدس، ثمّ اهتمامه المتزايد بالتّأمّل المتسامي مع مرور السنين. «رسمتُ لوحة […] كانت سوداء بالكامل تقريبًا. كان هناك شكلٌ في وسط اللوحة. نظرت إلى هذا الشكل، فسمعت صوت رياح ورأيت نوعًا من الحركة. كان لديّ أمل في أن تكون اللوحة قادرة على الحركة، ولو قليلًا فقط. هذا كل ما في الأمر». (كريس رودلي- مقابلات مع ديفيد لينش- مجلة دفاتر السينما، ص 30).
هذا الاقتباس الذي يصف اللحظة الدقيقة التي خطرت فيها لديفيد لينش فكرة إنجاز فيلم، يبين مدى تلازم الحاجة إلى استشعار صوت الأشكال مع حركتها في ذهنه بطريقة عضوية، تصبح بموجبها المقاربة الصوتية في حدّ ذاتها ديناميكية توازي الحركة البصرية للأشياء.
يستخدم ديفيد لينش اللون الأزرق في «المخمل الأزرقBlue velvet »، والأصفر في «طُرق ضائعة Lost Highways»، من خلال مؤشرات صوتية ولونية يعيد تشكيل الواقع ويصطفي منه أشياء يعيد صياغتها لتنتمي لعالمه المتفرد، ما يعكس اهتمامه الفائق بتجانس أفلامه، سواء من الناحية الشكلية أو العاطفية. ولهذا السبب يتولى بنفسه الاشتغال على الشريط الصوتي، باعتبار أنه عنصر أساسي يرافق الصورة في إدراك المشاهد لها. الصوت هو المحدّد الأول لنغمة الفيلم حين يغلف الأجواء معزّزًا قوة الصورة. منذ بداياته في الفيلم القصير «الأبجدية The Alphabit»، أضفى لينش على الاشتغال بالصوت اهتمامًا فائقًا، معتنيًا بأن يكون هناك بينه وبين الصورة اندماج عضوي، يصبح على أثره التفريق بينهما بمثابة إلغاء لكليهما، إذ أن كل منهما لا يمكن أن يوجد في معزل عن الآخر.
في «رأس الممحاة Eraserhead» (1977)، يستثمر لينش الشريط الصوتي باعتباره بعدًا يساعد على خلق تأثير الغرابة العزيز على قلب المخرج، حيث يغيب صوت المؤثرات الخاصة بحركة هنري وخطواته، حتى عندما يخطو وسط بركة مائية. كل ما نسمعه طوال الفيلم هو أصوات خام لهدير صناعي وصوت مُشَكَّل لرياح لا تتوقّف. الشريط الصوتي لهذا العمل الأول الذي لازال – بعد مضي زهاء نصف قرن على خروجه- يمثل مُنتجًا فيلميًا عصيًا على التّصنيف، وبات يُعدّ في حدّ ذاته قطعةً فنية تجريبية، لا تترك مجالًا للصمت، ولا يتخللها سوى قليل من الحوارات. شريطٌ قوامه طبقات مختلفة من الأصوات المصممة بعناية، تمتزج فيها عناصر الطبيعة (الماء والرياح) بتأثيرات صوتية معاصرة تنهل من مناخات المصانع وسمفونية المعادن، بغية محاكاة القلق الدّفين لهنري من المولود المشوّه، وعضوية حياة هو المسؤول عن جلبها إلى لعالم.
واحد من أبرز الأمثلة دلالة على تفرّد المقاربة الصوتية لمخرج «مولهولند درايف Mullholand drive» يظهر في مشهد ناديٍ سيلينسيو Silencio، حين يرفع عازف الترامبون يديه عن آلته لكن صوت العزف يستمر في التردد في المسرح ثم يندلع صوت الرعد إثر حركة يدي منظم المسرح. تشهد بيتي (نعومي واتس) الحادثة، وتنتابها فجأة تشنجات حادّة تنذر بدخول الحبكة في متاهات درامية معقدة في الفصل الأخير من الفيلم. يبدو الأمر كما لو أن اختلال نسيج الصوت والصورة، ومفارقتهما بعضهما البعض، قد أفضى إلى فجوة عميقة تهدّد بابتلاع الفيلم وخلط أوراق الحكي، بالطريقة نفسها التي ينفتح بها صندوق أسود صغير كبوابة قاتمة تبتلع الحكي لتربطه بعوالم موازية.
أما في «طرق ضائعة Lost Highways»، فيسمع فريد ماديسون (بيل بولمان) رجلًا يخبره عبر جهاز الاتصال الداخلي أن «ديك لوران قد مات». الصوت الذي نسمعه هو صوت ماديسون نفسه. وفي نهاية الفيلم، نراه يبلغ الرسالة بنفسه عبر جهاز الاتصال الداخلي. مشهدٌ يتصادم مع مشهد الحفلة الأثير من الفيلم ذاته. حين يخمد فجأة صوت الموسيقى وسط حفلة يحضرها ماديسون بينما يتقدم نحوه رجل قصير ذو هيئة غريبة. وكأنّنا مرة أخرى إزاء شخصية سحرية تعيد تشكيل الزمكان محدثةً قوسًا يبطل تأثيرات العالم الواقعي للبطل، وفي مقدمتها موسيقى الحفل الصاخبة. يقترب الرجل المتّشح بالسّواد بينما تتصاعد وتيرة تأثير صوتي متوتّر ومقلق، فنميّز وجهه الغريب ونظرته الحادة وغير المطمئنة، قبل أن يتوجه إلى ماديسون بعينين جاحظتين وابتسامة غامضة: «التقينا مسبقًا، أليس كذلك؟ … أنا الآن في بيتك». (…). يُخرج الرّجل المتّشح بالسواد هاتفًا خلويًا من جيبه ويمدّه لبولمان: «اتّصل بي!». يأخذ ماديسون الهاتف ويركّب رقم منزله، فينبعث صوت الرجل نفسه الذي طالبه بالاتصال به، لكن من الهاتف هذه المرة: «قلت لك أني هنا في منزلك». «كيف فعلت هذا؟» يسأل بولمان. «اسألني!» يجيب الرجل. يكرّر بولمان سؤاله في سماعة الهاتف«كيف دخلت منزلي؟». (…). يطلق الرجل ضحكة مجلجلة ينتج عن تردّدها بين حنجرته من وسط الحفلة وقهقهته المنبعثة من الهاتف صدى مرعبًا.
بغض النظر عن تفاعل هذا المشهد مع سرد الفيلم وتيمة الهوية المزدوجة، ما يهمّنا هنا هو الشريط الصوتي الذي يرتكز عليه، وكيف يخلق منه لينش رعبًا غير اعتيادي بعضويته الفائقة، انطلاقًا من فكرة إخراجية متفرّدة وأصلية. العامل الأول هو النغمات المقلقة التي تبعث في المشهد شعورًا عميقًا بالقلق. قلق من النوع الذي يسكن فؤاد المشاهد من دون أن يعي طبيعة تأثيره عليه. عكس تأثيرات الرعب الحادة Jump scare التي تجعله يقفز من مكانه أو يمسك قلبه من الهلع. أما العامل الثاني والأهم فهو أن نقطة التأثير في المشهد هي تلك اللحظة التي نستمع فيها إلى الصوت الرجل يتكلم من الهاتف بينما تركز الكاميرا على وجهه وشفتيه الساكنتين، قبل أن تنطلق ضحكته المتصاعدة، والتي من دونها لا تتجلى طبيعته غير الآدمية، ما يذكرنا بمشهد «مولهولاند درايف» أعلاه وتأثير الصوت المنفصل عن الصورة، الذي يمثل نوعًا ما عند لينش مقدّمةً لشرخ ميتافيزيقي يقصم ظهر الواقع، فيصبح بموجبه كل شيء ممكنًا. بالطريقة ذاتها التي يتحدّث فيها أبطال «توين بيكس Twin peaks» في «الغرفة السوداء» بطريقة معكوسة تفيد أنّنا في مكان تحكمه قوانين غير طبيعية وعلاقة مختلّة مع أشياء العالم.
يقول الباحث الفرنسي ميشيل شيون في مؤلفه المرجعي «الصوت»: «السينما هي في الواقع فنٌّ سمعي وبصري، حيث تلعب حاسة السمع – التي غالبًا ما تُهمّش أو يتم تجاهلها- دورًا مهمًا للغاية. (…) لا نرى نفس الشيء عندما نسمع، ولا نسمع نفس الشيء عندما نرى». جملةٌ تلخّص كل شيء وتبدو كمبدأ لن يتردد لينش في تبنّيه، بحكم افتتانه بعنصر الصوت، كعنصر مستقلّ قادر على إثارة المشاعر، وحين يندمج مع الصورة يخلق عالمًا غامضًا وساحرًا لن يتشكل إن كان كل منهما بمعزل عن الآخر. ومن ثمّ؛ فإن حضور المتواليات الموسيقية في أفلام لينش متجليةً أولًا في الموسيقى التي ألفها بتعاونه الأسطوري مع الكبير أنجيلو بادلامنتي (1937 ـ 2022)، ثم في الأغاني المنبعثة من داخل الحكي. الموسيقى عنده بالتالي ليست أبدًا توضيحية أو مقحمة، بل تنبعث من داخل الصورة نفسها: «يمكن لأي شخص أن يأخذ أغنية ويضعها في فيلم. ما يعجبني هو عندما لا تكون الأغنية مجرد طبقة أخرى من الصوت! ينبغي أن تتوفّر على شيء خاص في حد ذاتها يتعمق في القصة. يمكن بذلك أن تخلق شيئًا مجرّدًا أو حالمًا. ومن ثم تغدو حقًا مكوّنًا لا يمكن الاستغناء عنه، وليس مجرد قطعة موسيقية». (كريس رودلي، مقابلات مع ديفيد لينش، دفاتر السينما، ص 102).
يأخذ استكشاف ديفيد لينش للصّوت شكل رحلة تشريحية وعضوية، من التمثّل البصري وانبعاث الصوت إلى حسية إدراكهما مجتمعين. ويجد ذلك انعكاساته في حقول الابتكار المتعددة التي سبرها المخرج، من الفنون الأدائية إلى الفنون البصرية، مرورًا بالمواد الصوتية.
ظلّ لينش ولايزال، رغم تقدّمه في السن، يعتكف في استوديو التسجيل الذي أنشأه في منزله ليعمل ويجرّب ويبتكر، ويختبر تفاعلات صوتية مصمّمة لمرافقة صور منبعثة من خياله الجامح والمتسامي، بحثًا عن إضفاء مزيج من التوتّر والتّرقّب القلق على حياتنا، أو ما يسميه «تأثير الغرابة»… تلك النغمة المتفرّدة التي تجعلنا نميّز أعماله منذ الثواني الأولى.