فاصلة

مراجعات

“الصبي ومالك الحزين”… وصيّة “ميازاكي” بالجري وراء الخيال

Reading Time: 3 minutes

كان متوقعًا إعلان هاياو ميازاكي (1941) اعتزاله بعد فيلمه “هبوب الرياح” (2016)، فالأخير كان أقرب إلى سيرة ذاتية، وبمثابة خاتمة مثالية لمسيرته المهنية. كأنّ “المعلم” الياباني أراد التقاعد مع فيلم ذي لهجة ونطاق مختلفين عن أعماله السابقة. لكن مع تراجعه عن التقاعد، وطرح فيلمه “الصبي ومالك الحزين”، بات واضحًا أنّ الفيلم الجديد يسجّل عودة المخرج الأخيرة ربما (نتمنى أن لا تكون كذلك) إلى شكل الفنان القديم وطريقة عمله، فالعمل يعكس إلى حدّ كبير أسلوب قصص ميازاكي السابقة.

يرجّع فيلم ميازاكي الأحدث The Boy and the Heron صدى فيلميه السابقين جاري توتورو أوSpirited Away من حيث الموضوع، متحدّثًا عن أطفال ينغمسون في الخيال هربًا من مواجهة الحقائق غير المريحة، تتخلّله مجموعة من المخلوقات الخيالية والكائنات المحبوبة، إضافة إلى تسلسلات خيالية عديدة. 

الشخصية الرئيسية هنا طفل غاضب، تمامًا مثل ميازاكي ومثل شخصيّات أفلامه السابقة مثل “ناوسيكا أميرة وادي الرياح” (1984) و”الأميرة مونونوكي” (1999). هناك أيضًا أوجه تشابه مع ما نعرفه عن علاقة المخرج بوالدته وعمل والده في معمل لتصنيع الطائرات خلال الحرب العالمية الثانية، التي تلعب دورًا بارزًا في هذا الفيلم، خصوصًا من خلال تأثيرها على الحياة اليومية للناس مثل انقطاع الأطعمة والسكر والكماليات مثل السجائر. بهذا المعنى، هناك داخل “الصبي ومالك الحزين” الكثير من ميازاكي. كأن الفيلم أنشودة وداع لرجل يفكّر في موته وإرثه وما ينتظر هؤلاء الذين سيأتون من بعده. إنّه رسالة للأجيال الشابة، مفادها أنّ الخيالات ممتعة، لكن يجب الحذر منها. ولو كنت غاضبًا من عالم يستمر في التدهور يومًا بعد يوم، يخبرك ميازاكي أنه لا يزال يتعيّن علينا مواجهة الواقع.

ميازاكي

تدور قصة “الصبي ومالك الحزين” في المحيط الهادئ خلال الحرب العالمية الثانية. يقدّم لنا ميازاكي بطله ماهيتو ماكي (سوما سانتوكي)، وهو فتى من الطبقة المتوسطة، يفقد والدته بشكل مأساوي في حريق في طوكيو. بعد سنوات، يصل إلى المدينة مع والده الذي يملك مصنعًا لقطع غيار الطائرات، لبدء حياة جديدة. عند وصولهما، ترحّب بهما امرأة يقدمها له والده على أنها والدته الجديدة، ناتسوكو (يوشينو كيمورا) هي الأخت الصغرى لوالدته المتوفاة، تزوجها والده وتنتظر مولودًا جديدًا سيكون أخًا لماهيتو. بينما يدير والده المصنع، يحاول ماهيتو التكيف مع هذه التغييرات ويكافح للتغلب على مرارة وألم الفقد. في بيته الجديد، يلفت انتباه ماهيتو وجود طائر مالك الحزين، الذي يبدو رشيقًا بأرجله النحيلة المتدلية في الماء، لكنه سرعان ما يكشف عن نبرة مزعجة للغاية، بسبب صوته ونظرته المريبة وأنفه الناتئ. مالك الحزين ذو سلوك مريب، يطلب من ماهيتو أن يتبعه نحو بناء غامض، هو برج محظور بناه عمه الأكبر. تتغير نغمة الفيلم عند دخول البرج، ويُفسح هدوء الطبيعة المجال لمناخات قوطية قاتمة، وينفتح عالم على آخر لتبدأ مغامرات الصبي في البحث عمن فُقدوا.

عودة هاياو ميازاكي وهو في الثانية والثمانين إلى ما وراء الكاميرا، هي عودة مخرج سينمائي كامل، يتقن فنه ومخلص لعوالمه المميزة. عودة مبدع يسمح لنفسه بالانجراف بحكمته، وأن يكون أكثر صرامة وتطلّبًا من نفسه. في “الصبي ومالك الحزين”، تتكشف حكاية اليتم والصداقة والتعايش بين الأحياء والأموات على الشاشة بالزخم الخيالي نفسه، وخط الرسم المميز نفسه، والحرية التخيلية نفسها لربط عوالم واقعية وخيالية ببعضهما.

ميازاكي

لعلّ “الصبي ومالك الحزين” هو أعقد أفلام ميازاكي من الناحية البصرية. فبناء هذا العالم الجديد مذهل، أكان هذا في المشهد الافتتاحي حيث يركض الصبي في شوارع طوكيو أثناء الحريق الهائل بينما يتلاشى الأشخاص في الخلفية في ظلال الدخان، أو عوالم الأموات والببغاوات والمياه والنورس والأسماك.

يركّز الفيلم على المشاهد المرسومة التي تمرّ لفترات طويلة من دون حوار، حيث تتحرك الشخصيات ببطء على وقع موسيقى جو هيسايشي التي تأخذنا بأيدينا وتلامس المشاعر، حين يتناغم البيانو والأوتار والأصوات التي ترافق ماهيتو مع الألوان والأنسجة في كل مكان.

يتأمل ميازاكي حياته من خلال ماهيكو كأنّه يودّعنا، يدعونا لطرح الأسئلة، والتعبير عن العواطف، والتصالح مع الموت والأموات. “الصبي ومالك الحزين” هو الفيلم الأكثر شخصية الذي أخرجه ميازاكي، محمّل بالرمزية المقصود منها التأمل، بدلًا من محاولة استيعابها وتحليلها.

يغمرنا ميازاكي في هروب سحري، ليس هناك مَن يشبهه، فهو قادر على رسم شخصيات بشعة تقترب من الرعب، ثم تتحرك نحو الحلاوة الخيالية. الإسراف هو شيء طبيعي هنا، والوله بالأشياء الغريبة يجعل من ميازاكي كائنًا فريدًا، ليس بسبب عوالمه البصرية الاستثنائية فقط، بل أيضًا بسبب ثقته العمياء بالرسم والصورة المرعبة لتحقيق الجمال والعاطفة.

اقرأ أيضا: «تشريح سقوط»: دراما عن الحقيقة والأكاذيب وخداع الذات

شارك هذا المنشور