فاصلة

مقالات

السينما الوثائقية… النبش في الذاكرة لإعادة بناء التاريخ

Reading Time: 4 minutes

بدأت السينما وثائقية يوم انطلق قطار الأخوين لوميير إلى محطة لاسوتا عبر جدار مُصمت في قبو مقهى باريسي، يوم الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1898، شعَّ الضوء بعدها بأفلام وأفلام، لتكون الأفلام الوثائقية في كل مكان تصله الكاميرا توثق حيوات الناس، كما في فيلم «نانوك ابن الشمال Nanook of the north» عام 1922؛ الذي أصبح عتبة أسست للأفلام الوثائقية.

من وقتها اتخذ أنصار مخلصون للسينما الوثائقية موقفًا حادًا في معاداته للسينما الروائية، حد وصفها بـ «الأسلحة الفتاكة في يد الرأسمالية» كما وصفها الروسي دزيجا فيرتوف، داعيًا إلى أن تعيش السينما الحياة كما هي دون تدخل. ومع ذلك؛ آمن فيرتوف نفسه أن للمونتاج القدرة على خلق حياة وأناس جدد كما يريد وينتقي. 

تتداخل الحدود الآن بين السينما الوثائقية والسينما الروائية، إذ ظهرت خلال العقود الأخيرة أصنافًا فيلمية تخلط بين رافدي السينما كصنف «الدوكيو-دراما» وتعرَّب إلى الدراما الوثائقية، و«الموكيومنتري» أي الوثائقي الزائف الهادف للسخرية والإضحاك. لكن قبل هذا التداخل كانت هناك عناصر فاصلة تحسم تصنيف الأفلام بين الوثائقي والروائي، نستعرض بعضها في هذا المقال.

التمثيل 

يتعارض التمثيل مع التوثيق، فالأصل في الفيلم الوثائقي انتفاء التمثيل، أو تزييف الحياة وفقًا لتعبير دزيجا فيرتوف، ولكن عند العودة إلى بدايات ما نظنه وثائقيًا نجد أن التمثيل كان حاضرًا بشكل أو بآخر، فمثلا خروج العمال من المصنع للأخوين لوميير الذي يجده فيرتوف مؤثرًا، لم يكن يلتقط لحظة تلقائية غير مرتبة، أو يدع الكاميرا أمام الحياة، بل ما شاهدناه هو نتيجة تكرار التصوير، هذا التكرار كفيل بتهيئة هؤلاء العمال الخارجين من المصنع لمواجهة الكاميرا الغريبة آنذاك، وما طالعناه من مشاهد هو حصيلة انتقاء وانتخاب من مجموع لقطات أرشيفية، اختار مخرجا الفيلم من بينها ما خرج إلى الشاشة، وعلى ذلك قس كل أفلام البدايات الأولى، والتي كانت سبيلا للأفلام الروائية التي اكتسبت سحر القصة والسيناريو من الأفلام الوثائقية لأنها إعادة سرد القصة.

الأرشيف 

تعتمد الأفلام الوثائقية على الأرشيف لسرد القصة، وهذا ما فازت به لينا سويلم في فيلمها «باي باي طبريا»، إذ يقع بين يديها أرشيف لوالدتها الفنانة هيام عباس ووالدها الممثل عز الدين سويلم، ومن خلاله سردت قصة نسوية وإنسانية مستعينة ببطلة ممهدة لسرد الحكاية، ومستعيدة لتاريخ كبير وإرث سنوات طوال، فهي البنت الفلسطينية التي لا تعرف بلدها إلا من خلال مرويات والدتها ونشرات الأخبار وحديث المتعاطفين والمناوئين أيضًا، فهي فرنسية النشأة، وسوربونية المؤهل.

إن الجزء الغائب من النص في ذاكرتها كفيل بقيادتها للبحث فيما تمتلكه من أرشيف، وما تسرده نساء أسرتها أيضا، وهذا ما امتاز به فيلمها عن تجربة لجأت لوسيلة سرد مختلفة، هي تجربة أسماء المدير في فيلمها «كذب أبيض»، فعندما وجدت نفسها أمام قصة لا تستند إلى وثائق بصرية ولا أرشيف يساند الوقائع، لجأت إلى التفكير بوسيلة أصبحت عنصر جذب أكسب الفيلم حيويته؛ عندما حوّلت الشخصيات إلى مسرح دمى وعرائس، وأدخلت نفسها راوية للقصة، وهذا ما جمع بين الحقيقة والتمثيل، فكان عنصر جذب يضفي للأرشيف المفقود عنصر الإيهام بالحضور من خلال الشهادات، ويكسر رتابة السرد الشفاهي، ويضفي للسردية الحداثية للواقعة التي تنوي حكايتها.

فيلم (باي باي طبريا) و (كذب أبيض)
فيلم (باي باي طبريا) و (كذب أبيض)

التاريخ

الوقائع التاريخية هي الأكثر جاذبية للأعمال الوثائقية، ولكن ما يؤيد الواقعة هو ما ينقص مثل هذه الأعمال، فليس بين أيدينا سوى من عايش هذا التاريخ، ولا ضمانة لبقاء هؤلاء أبد الدهر، فما السبيل.

إذا قبل أن يمضي هؤلاء دون أن يدونوا مروياتهم، عليهم اختيار خير وسيلة معاصرة وهي التوثيق المرئي، وهذا ما عملته أسماء المدير باستعادة «ثورة الخبز» بالدار البيضاء عام 1981، وما صاحبها من أحداث أرادت توثيقها وسردها بواسطة من عايشها، ووجدت في الدمى بديلًا يسهل على أصحاب الشهادات الحكي باسترخاء واطمئنان، فيما تلعب أسماء المدير دور الراوي – بدلاً عنهم- لقراءة ما بين سطور أحاديثهم ومروياتهم.

بينما تستعيد لينا سويلم النكبة عام 1948، وما لحق عائلتها خلالها من تهجير، وخاصة ما مرت به والدتها من رحلة مطولة وجريئة حتى ولدت لينا وعاشت لتصل هذا العمر، وتعود لتوثق تلك الرحلة التي لم توثق.

إن التاريخ ما لم يتم التذكير به واستعادته بالوسائل المعاصرة؛ سيظل حبيس الكتب، وذاكرات قدرها أن ترحل، وترحل معها الحقائق في ظل ما يرسخه الإعلام المضاد من روايات ومغالطات، وهذا ما يجعل للأفلام الوثائقية قيمتها الكبرى، متخذة دور منبر العصر الحديث، ومحطة أخباره.

فيلم (باي باي طبريا)
فيلم (باي باي طبريا)

الشعر

كان الشعر ديوان العرب منذ اعتمده عبدالله بن عباس رضي الله عنه مرجعًا يعود إليه العرب والمسلمون للاحتكام فيما أشكل عليهم في اللغة، وعلى ذلك سار من بعده مثل أبي هلال العسكري في كتابه الصناعتين؛ ليضيف للديوان وصف الشعر بخزانة حكمة العرب ومستنبط آدابها ومستودع علومها. ولأن الزمن تتبدل أدواته؛ حلَّ الفيلم بديلا صالحا للعب هذا الدور.

الشعر عصيٌّ على التفريط في مكانته، وهذا ما جعله حاضرًا في الفيلم الوثائقي، وبه ابتدأت لينا سويلم فيلمها، عندما ألقت والدتها هيام عباس قصيدة كتبتها أيام شبابها، ولعل تلك اللحظة كفيلة بعودة شريط ذاكرة العرب جميعا لاستعادة وسائلهم اللفظية، وليحضر الشعر بوصفه الخزانة والمستودع للشجن العربي بدلاً من أرشيف البطولات والانتصارات.

بالشعر أيضًا ابتدأت أسماء المدير فيلمها، مستعيدة طقوس ليلة القدر في المغرب، وما تشهده من مظاهر بهجة وسعادة؛ لتكون مدخلا لحكايتها المأساوية بمدخل لطيف عندما تعيش الفتيات ممن لا يستطعن الوصول إلى تلك الحفلات لقلة ذات اليد، بوجود بدائل لا تحرمهن البهجة، وكانت تلك الدمى هي الوسيلة التي حضرت مؤنسة لهن صغارا، ومعاونة لهن كبارا لسرد حكايتهن.

(كذب أبيض)
فيلم (كذب أبيض)

المنهج

لا منهج للأفلام الوثائقية، ولا للإبداع كله، فالمنهج هو غياب المنهج، ولكن لا بد من تأثر وتأثير، فلا بناء دون لبنات تعلو فوق بعضها البعض، ولا بد أن يتشبث اللاحق بالسابق، أو يطاله شيء من الأثر، بقصد أو دون قصد، وعن معرفة أو دون اطلاع أيضا، فما من سالك طريق إلا وهناك من سبقه إليه، فالشعر على سبيل المثال كان حاضرا بأغنية في فيلم الشاعر اليهودي حاييم جوري المعنون بـ «الكارثة الحادية والثمانين the 81st blow» عام 1974، والذي يوثق للهولوكوست النازي بأرشيف بصري محفوظ وهو الشاعر.

فضّل حاييم جوري تقديم سرديته عن طفل نجى من الهولوكوست، وأبصر ثمانين ضربة أو كارثة أو مصيبة، والأقسى من ذلك أنه عندما روى هذه الحكايات للناس لم يصدقها أحد؛ فكانت تلك الكارثة الحادية والثمانين. وجاء الفيلم لتوثيق تلك الحادثة بأرشيفها، وفي المقابل جاء فيلم محمد ملص «المنام» بنهج مشابه عندما وثق مقدمته بأغنية بينما تسير كاميرته في الأزقة، وجاءت بطلته لتسرد حكايتها وسيرة عائلتها التي تعيش الشتات.

الأبيات الشعرية حاضرة لتحكي ذاكرة مدونة شفاهيا، والصورة ترسم شعريتها بديلا وشاهدة على الحقائق، وغير قابلة لحدوث مصيبة حادية وثمانين بتكذيب من تروي له القصص فيكذبها، أو من يتوهمها من خيال السارد، فلا أصدق من التوثيق البصري، وهذا ما يضطرنا إلى مقال مقبل لفيلمين عربيين وثائقيين حديثين في الأيام المقبلة.

اقرأ أبضا: «كذب أبيض»… تخليص الحقيقة من ركام الصور والتضليل

شارك هذا المنشور

أضف تعليق