لا يحتاج فيلم “الإرهاب والكباب” إلى إعادة التقدير له، فالفيلم علامة مسجلة في السينما المصرية والعربية، وهم من أنجح أفلام أشهر فنان عربي “عادل إمام”، ومن تأليف كاتب السيناريو الذي يعتبره كثيرون الأهم عربيًا “وحيد حامد” ومن إخراج واحد من أهم مخرجي مصر في آخر 30 عاما “شريف عرفة”.
يحظى الفيلم بمحبة جماهيرية كبيرة، منذ عرضه الأول في عام 1992، وتتجدد محبة المشاهدين له ويكتسب معجبين جدد مع تكرار عرضه على شاشات التليفزيون طوال 30 عامًا تلت عرضه السينمائي الأول، إلا أنه رغم كل ذلك لم يحظ بتكريم نقدي مساوٍ لتلك المحبة، ففي عام 1996 وعلى هامش مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بمناسبة مرور 100 عام على بداية السينما المصرية، اختار النقاد قائمة ضمت أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، وخلت القائمة من “الإرهاب والكباب”. وعلى جانب مغاير وبعد مرور ثلاثين عامًا على الفيلم؛ أصدر مهرجان الإسكندرية السينمائي بالتعاون مع اتحاد نقاد السينما المصريين في عام 2022 قائمة بأفضل 100 فيلم كوميدي في تاريخ السينما المصرية، واحتل “الإرهاب والكباب” فيها المركز الثالث.
انطلاقًا من هذا التغير النقدي في تقدير الفيلم، نعيد معكم قراءته، لنجيب على سؤال، ما سر نجاح كوميديا الإرهاب والكباب، الذي يزيد كلما مر عليه الزمن؟
الانغماس في المحلية
تدور أحداث “الإرهاب والكباب” في إطار مصري خالص، بحيث يمكن استخدامه كشريط سينمائي يوثق لمصر في حقبة الثمانينيات الممتدة إلى منتصف التسعينيات، حيث سيطرت البيروقراطية بشكل مهين على حياة المصريين في مبنى تتجسد فيه تلك البيروقراطية المصرية التاريخية وهو “مجمع التحرير”: المبنى الخرساني الضخم الجاثم على ميدان التحرير في وسط مدينة القاهرة.
مبنى عامر بالممرات الضيقة ومئات الغرف التي تحتلها مكاتب من إدارات مختلفة قضى المصريون فيها ساعات طويلة من أعمارهم لإنهاء المعاملات الحكومية.
بطل الحكاية اختار له “وحيد حامد” صفات المواطن الأكثر عادية، رجل اسمه مثل ملايين المصريين “أحمد” يعمل موظفًا، ويحاول زيادة دخله من خلال عمل إضافي، له ابن وابنة، يحاول أن ينقل كلا منهما من مدرسة مكتظة بالطلاب بعيدة عن المنزل إلى مدرسة أقرب قليلًا. ينقل لنا وحيد حامد وشريف عرفة رحلة أحمد “السيزيفية” لأداء هذه المهمة التي تبدو لأول وهلة بسيطة.
يبدأ الفيلم بزحام شديد يتلاصق فيه المواطنون داخل مجمع التحرير، بعدها يستمر الزحام في أتوبيس النقل العام.
حينما ننتقل لنظرة أعمق داخل مجمع التحرير يستمر الفيلم في توثيق الواقع المصري لتلك الفترة: المعاناة التي يمر بها المواطنون، والمعاناة التي يمر بها جندي يقضى فترة خدمته العسكرية الإجبارية، ورجل يصلي في كل الأوقات هربًا من أداء وظيفته، وموظف لا يمكن العثور عليه.
يبدو الواقع عشوائي وقاتم، من أين تأتي الكوميديا إذن؟
الموقف والمفارقة
يعتمد “الإرهاب والكباب” بشكل رئيسي على صنع المفارقات بوضع بطله داخل مواقف لا يستطيع السيطرة عليها لكنه يحاول تغييرها، مواقف بسيطة للغاية يمكن لأي إنسان التماهي معه، يدخل “أحمد” على سبيل المثال المكتب المختص بأوراق نقل أبنائه للمرة الأولى، يسأل الموظفة الجالسة فتجيبه من دون أن تسمع السؤال بالتوجه لزميلها الذي يصلي، موقف حدث لي شخصيًّا وحدث لك على الأغلب عزيزي القارئ، أن يرد عليك أحدهم بتوجيه دون أن يسمعك بالأساس.
تأتي الكوميديا هنا من رغبة “أحمد” في مقاطعة مكالمتها بدون أن يظهر كشخص عديم الأدب، تزيد المفارقة حينما تطير من فمه دون أن يقصد “قشرة لب” فتهبط على حجاب الموظفة الذي يغطي جبهتها، لتزيد كوميديا المفارقة، يحاول أحمد أن يزيل القشرة دون أن تشعر الموظفة، يتحرك يمنة ويسرة، ويلتفت بعيدًا بمجرد أن تنظر إليه، كوميديا موقف يصاحبها كوميديا جسدية يتميز بها عادل إمام الذي تمثل حركات جسده المفاجئة شفرة يعرفها كل محبيه.
في الثلث الأول من الفيلم تنبع الكوميديا كلها من مثل تلك المفارقات، رغبة أحمد في تغيير واقعه دون أن تهتز صورته كمواطن هادئ ومثالي، هكذا يتم تسييره كالخراف ويظل مفعولًا به في طرقات وممرات المجمع، في المواصلات العامة، وفي كل مكان.
موهبة كوميدية كبيرة أيضًا تم اكتشافها في هذا الفيلم، هو “علاء ولي الدين” الذي سيصبح بعد ذلك أبرز وجه كوميدي في جيله، يصنع معه هنا وحيد حامد تركيبه شبيهه في دور ثان: هو رجل هادئ ووديع يدعى “سمير” يحاول الهرب من معاناته (واقعه) كزوج لسيدة لا يحبها؛ بالانتحار. لكنه في الوقت نفسه لا يملك الشجاعة الكافية لذلك، وإن واتته الشجاعة لا تواتيه القُدرة، فنحن نرى علاء الذي لا يستغل زيادة وزنه قدر استغلاله استحالة قيامه ببعض الحركات بهذا الجسد، كأن يحاول مثلًا رفع ساقه بشكل أكروباتي في محاولات فاشلة متكررة للقفز من أعلى المجمع. يقدم وحيد حامد من خلال “علاء ولي الدين” تحية خاصة لفيلم بديع آخر من السينما المصرية وهو “بين السماء والأرض” الذي يكتب علاء لوالدته في خطاب انتحاره أنه من ألهمه بهذه الطريقة لإنهاء حياته.
كوميديا إنسانية قبل أن تكون سياسية
في مقاله عن الفيلم ضمن كتاب “images of enchantment” يذكر البروفيسور الأمريكي “والتر أرمبروست” الأستاذ بجامعة أوكسفورد، أنه وبقية من شاركوه مشاهدة الفيلم بعد أن أتيح في أمريكا قد تنهدوا عقب مشاهدته قائلين “أخيرًا فيلم مصري مثير للاهتمام”.
الاستشهاد بكلام “أرمبروست” ليس هنا من أجل إضفاء قيمة على الفيلم بسبب تقدير جمهور أكاديمي غربي له، لكنه للتدليل على قدرة الفيلم على التواصل مع مشاهدين غير مصريين وغير عرب، ألمس هذا شخصيًّا في قدرة الفيلم وقصته شديدة الخصوصية على التواصل مع أصدقاء أوروبيين ممن أحيا بينهم اليوم. ليتأكد لي كل يوم أنني لو اخترت 5 أفلام في تاريخ السينما المصرية للترشيح للمشاهدة على نطاق عالمي فسيكون “الإرهاب والكباب” واحدًا منهم.
تتجسد عبقرية “الإرهاب والكباب” من خلال قدرته على التواصل الإنساني مع مشاهده في كل زمان ومكان، فستشعر وأنت مصري في التسعينيات أنه يتحدث بلسانك، يطالب بإنسانيتك الضائعة ويثور ضد إهانتك، وسيستمر الشعور بهذا التواصل مع الفيلم إذا شاهدته الآن بالطبع، أما إذا كنت غير ملم بالشأن المصري فسيمكنك كإنسان تفهم غضب أب من عدم قدرته على القيام بمهمة بسيطة في نقل أبنائه لمدرسة أفضل، ستغضب مثله بشكل متصاعد في كل مرة يتم إهانته فيها، في إجباره على العمل في وظيفتين من أجل أن يجد بالكاد ما يكفي أسرته، وسيزيد غضبك حينما ترى مظالم من يشاركونه الحكاية: ماسح الأحذية الذي سُرِقَت أرضه ولم يجد طريقًا قانونيًا لاستعادتها، الجندي الذي ترك زراعة أرضه من أجل مسح مكاتب رؤسائه أو خدمة أبنائهم، وحتى الرجال والنساء الصامتين في مشهد كافكاوي مستمر في شوارع هذه المدينة.
يرى أحمد في الرجل العجوز الغاضب في الأتوبيس نفسه بعد مرور السنين، غضب عارم من الجبن المسيطر على الجميع لكنه بعد فوات سنوات القدرة على التغيير، وبالمثل يتماهى معه كل مشاهد.
يصبح الغضب من أجل الإنسانية التي تُمتَهن وليس من أجل رؤية سياسية ضيقة، يمكن بالتالي تفهم ثورة “أحمد” ولحظة غضبه في الثلث الثاني من الفيلم الذي تتحول معه الحكاية لموقف غير مرتب ينتهي به في وضع الرجل الذي يخاطر بحياته من أجل أن يستعيد إنسانيته وكرامته، ويتفاوض بالأساس من أجل مزيد من الحقوق للمواطنين جميعًا، ومن هنا تزيد قيمة الفيلم كلما شاهدته، تحن لليلة التي حاول فيها “أحمد” أن يستعيد جزءًا من إنسانيته وكرامته، تحن للحظة ملك فيها العاديون القدرة على التغيير وحق التفاوض، وتنظر إلى التحرير مثله في نهاية الفيلم بابتسامة شجن، نعود معه إلى حياتنا اليومية التي نعاني فيها، لكننا ندرك أننا مسسنا الحرية في لحظة ما، حتى ولو لم تستمر طويلًا.
اقرأ أيضا: سينما الكوميديا.. زيارة نقدية