ها أنت تقف على اللوح الأسود أبي
في صورتك التي أحتفظ بها
بِفلقةٍ في ذقنك بدلًا عن قدمك
ومع ذلك لم يقلّل هذا من شرورك كلا
لست أقلّ شرًا من الرجل المخيف
الذي كسر قلبي الأحمر اللطيف إلى نصفين
سيلفيا بلاث «قصيدة أبي»
قبل 8 سنوات أصدرت كاتبة متوسطة الشهرة تدعى كولين هوفر رواية جديدة لم تلق رواجًا كبيرًا في البداية مقارنة بما لاقته رواياتها السابقة التي أصدرتها منذ بدأت الكتابة في العام 2011.
استمدت كولين هوفر فكرة وبعض أحداث روايتها «ينتهي معنا It ends with us» من العلاقة المتوترة لوالديها، وفوجئت أن روايتها تلقاها جمهور أوسع من الجمهور الذي اعتادته من اليافعين ومحبي الروايات الرومانسية التي تصدرها. لكن بفضل منصة تيك توك، ومجتمع «بوك توك»، أي محبي القراءة ومراجعة الكتب عبر المنصة، حققت الرواية بين عامي 2021 و2022 مبيعات قياسية، واحتلت رأس قائمة الأكثر مبيعًا لأسابيع طالت، فيما حققت الاقتباسات ومراجعات الرواية على تيك توك نسبة مشاهدة عالية، دفعت الناشرين حول العالم لشراء حقوق ترجمتها لأكثر من 20 لغة.
ويبدو أن نسب المشاهدة العالية وتفاعل الجمهور لا ينتهي مع هذا العمل، على نقيض العنف الذي قررت هوفر استئصاله في روايتها، ليعود «إنه ينتهي معنا» It ends with us هذه المرة متصدرًا شاشات العرض حول العالم بمبيعات تذاكر قدرت بحوالي 100 مليون دولار علمًا بأن تكلفته الإنتاجية لم تتخط 25 مليون دولار.
رواية هوفر التي أخرجها للسينما جاستن بالدوني، في فيلم تقاسم بطولته مع بليك لايفلي، تناقش موضوع العنف الزوجي، وتحديدًا العنف تجاه النساء.
يتناول الفيلم حكاية ليلي بلوم (بليك لايفلي) ومعاناتها مع العنف الأسري في مراحل حياتها المختلفة، من خلال أب ناجح مهنيًا وذو مكانة اجتماعية مرموقة، لكنه يستخدم العنف وسيلة للتواصل والتعامل مع أسرته، مما ينعكس على مستقبل علاقتها مع الزوج الذي قرر ممارسة ذات السلوك تجاهها، لكنها في نهاية الفيلم تقرر قطع سلسلة هذا السلوك العدواني والخروج من دائرة العنف مع ميلاد ابنتها، إذ تخشى أن تتعرض الابنة لما تعرضت هي له فتقرر كسر دائرة العنف المستمرة.
يبدأ الفيلم بصورة علوية لشبكة خطوط تتوسطها سيارة ليلي في رحلة العودة من بوسطن إلى مسقط رأسها لتشارك في جنازة والدها، لنكتشف في المشاهد اللاحقة أن علاقة ليلي بأبيها يشوبها التوتر. فهي تختار الهرب في لحظة تأبينه عاجزة عن إيجاد وذكر خمس خصال حسنة عنه، تبدو ليلي سلبية لا تملك ما تمنحه لوالدها قبيل لحظة الوداع سوى ملاحظة عابرة لوالدتها توصيها أن تختار زهرة الزنبق «الليلي» في ترتيبات أزهار الجنازة، هذه الزهرة التي تحمل بطلة الفيلم اسمها، ترمز للنقاء والطهارة في الذهنية المسيحية ودومًا ما يقترن اسمها بالعذرية لذا هي من الزهور التي تحظى بشعبية كبيرة في مناسبات الأفراح والأعراس لأنها تبشر بالولادة الجديدة وهذا ما يجعلها أيضًا زهرة مناسبة للجنازات، والقيامة بعد الموت. لذا لا عجب أن تحضر الزنابق في الكنائس واللوحات الزيتية وحتى في بطاقات المعايدة البريدية.
من الموت ورحلة الاقتراب لباطن الأرض ننتقل لسطح إحدى البنايات في مدينة بوسطن لنجد أنفسنا أقرب للسماء، في لحظة التعارف وبداية العلاقة والحكاية، يقتحم رايل (جاستن بالدوني) المكان بفعل غاضب وعنيف من خلال ركل كرسي، مبررًا ذلك بمروره بيوم عصيب بسبب مهنته كجراح أعصاب، ليدور بين ليلي ورايل حوار أشبه ما يكون باستعراض لغوي وتقارب جسدي لا يكتمل، ليبدو الحدث كقوس استهلال لبداية الأحداث.
من خلال الأحداث نرافق ليلي في رحلة افتتاح متجرها لبيع الزهور، والذي يحمل اسمها لتبدأ رحلة من المصادفات طوال الفيلم وعلى مدار ساعتين لا تنتهي المصادفات الغريبة، بدءًا من مصادفة لقائها ببرايل لتشتعل بينهم شرارة الحب والانجذاب مرورًا بلقائها بأول حبيب عرفته في مراهقتها. تتطور الأمور بين ليلي ورايل سريعًا، ليقدم رايل على خطوة لا تشبهه؛ فهو كما قدم نفسه لها في اللقاء الأول رجل يفضل أن يكون عابر في حياة النساء ولا يؤمن بالعلاقات طويلة الأمد او الارتباط، إلا أنه يقرر التقدم لطلب الزواج منها في ذات اليوم الذي تلد فيه اخته مولودتها البكر، ارتباط الحدثين الولادة وطلب الزواج في مشهد يعيدنا للصورة المثالية والساذجة عن الحب في المجتمعات القديمة. مثلًا يعتقد أفلاطون ان إنجاب الأطفال خطوة ترتقي بالحب، لأن الولادة حدث يسمح للإنسان بترك ذكرى خالدة عن نفسه إلى الأبد.
يقدم الفيلم خطين متوازيين لعلاقات ليلي العاطفية، الأول يتعلق بعلاقتها الحالية والتي سنشهد مع تطورها ملامح العنف النفسي والأذى الجسدي الذي تتعرض له، والخط الثاني يحضر كصور فلاش باك من ذاكرتها لعلاقة سليمة وصحية في مرحلة المراهقة مع «أطلس»، الشاب الذي يعاني من التشرد بسبب سلوك والدته وعلاقاتها المتعددة مع رجال امتهنوا إيذائها. هذا الخط يتقاطع مع حاضرها حينما تجمعهما الصدفة ذات يوم، ليشكل في حاضرها جرس الإنذار الذي يُقرع منبهًا إياها لمدى الأذى الذي تتعرض له.
تقرر ليلي الخروج من علاقتها السامة مع رايل وتقرر الانفصال، وتكاشف زوجها بقرارها بعد إنجابها لطفلتهما، وتبدو لحظات الولادة في الفيلم لحظات كاشفة، هذا الاستخدام المتكرر من طلب الزواج إلى الطلاق، أفقد الولادة أهميتها وعمق تأثيرها ونحى بها نحو الابتذال. واعتقد لو تم الاكتفاء بحضور الولادة في هذا المشهد لأصبح الحدث أكثر منطقية وعمقًا، لأن الولادة كما يراها آلان باديو وعبر عنها في كتاب (في مديح الحب) هي معجزة وتحد في ذات الوقت، تقود الأزواج لتوجيه ذواتهم نحو الواحد وهو الطفل، فبعد الولادة لا يختبر الزوجان بعضهما في الحياة، هي نقطة فاصلة ونقطة تحول في علاقتهما ونظرتهما للحياة.
تبدو المعالجة الدرامية ضعيفة وركيكة ومباشرة وساهمت كثرة مشاهد الفلاش باك التي استخدمت إما لتبرير حدث ما أو استعادة صورة من الماضي في إيضاح وإبراز هذا الضعف، وأعتقد أن صناع العمل لو لجأوا في معالجتهم إلى الطريقة التقليدية من خلال السرد الزمني المرتب بتقدم عمر البطلة؛ لربما نجا الفيلم من الترهل الدرامي وبطء الإيقاع. ورغم أن ثيمة العمل تتطلب إبراز الأبعاد النفسية للشخصيات؛ إلا أن المعالجة أغفلت هذا الجانب، ويتضح ذلك في علاقة ليلي بوالدتها، فمثلًا نهاية الفيلم تكشف لنا أن ليلي اختارت الرحيل بدلًا مع البقاء مع الزوج العنيف وهو الخيار الأصعب الذي عجزت والدتها عن القيام به واكتفت المعالجة الدرامية أن تختزل هذا الصراع في جملة «لأن الرحيل أصعب من البقاء» والتي أجابت بها الأم سؤال ابنتها عن سبب استمرارية الزواج رغم كل ما تعرضت له من عنف.
صورة الأم في زواج مضطرب تشكل صورة الفتيات النمطية عن العلاقات والتعامل مع الرجل واستمرارية هذه الصورة أو كسرها يتطلب مبررات عجز الفيلم دراميًا عن تقديمها أو الإقناع بها، أو توظيف أحداث تساهم في شرح لماذا تبدو ليلي المراهقة في منزل والديها أكثر وعيًا وعمقًا وقدرة على منح الحب والعطاء من ليلي الشابة المستقلة التي تلاحق أحلامها.
تتضح ضبابية علاقة ليلي بوالدها حتى في أشد لحظاتها خوفًا من قربه أو التعامل معه، ولا تزودنا المعالجة بإجابات لأسئلة على شاكلة هل مشاعر ليلي تجاه أبيها هي صوت الرفض لاستسلام والدتها، وهل انجذابها للشخص الخاطئ بسبب افتقادها للحب والذي عجز الأب عن تقديمه لها؟ هل رفضها للعنف فقط بسبب الصور المخزنة في ذاكرتها من تجربة والدتها؟ وخصوصًا أن الفيلم يستحضر ذكريات العنف من خلال صور الفلاش باك بطريقة سطحية تبدو أقرب للإعلانات التجارية على شاكلة قبل وبعد استخدام المنتج. هذه العلاقة هي المعضلة الأخلاقية المحورية في الفيلم، ولكن المعالجة الدرامية جعلتها ذات حضور هامشي من ناحية الأسباب والأثر، وللأسف خلال ساعتين لم تتكون لدي أية مشاعر تجاه ليلي فهي تبدو شخصية مختلقة ومصطنعة. وأعتقد أن السبب لا يرتبط بالمساحة الزمنية، فـسيليفيا بلاث الشاعرة الأمريكية والتي من قبيل المصادفة كانت من أبناء مدينة بوسطن، كتبت في قصيدتها «أبي» «Daddy»؛ استحضرت غضبها المكبوت من غياب والدها بسبب الموت في طفولتها المبكرة، وعلاقتها المتوترة مع والدتها، في لحظة مواجهة خيانات زوجها الشاعر تيد هيوز التي أدت إلى انتحار بلاث في نهاية المطاف، وعبرت عن الغضب والخيبة والماضي الذي لا يغيب من خلال قصيدة واحدة.
مرحلة الطفولة هي البئر العميقة للنفس البشرية وتملك تأثيرًا لا يمكننا التملص منه في علاقتنا مع ذواتنا والآخر. وتكوين الشخصيات الرئيسية في الفيلم ارتكزت على أحداث معينة وقعت في الطفولة تفسر ملامح الشخصية النفسية؛ فمثلًا رايل قتل أخاه خطًأ في طفولته، فنشأ يعاني من نوبات غضب وعنف وشعور بالذنب يطارده، وليلي نشأت في منزل كان صوت العنف فيه هو الأعلى، أما أطلس فكان مراهقًا مشردًا مطرودًا من منزله وتتعرض والدته للضرب، هذا التقاطع بين ليلي وأطلس في خط العنف نتج عنه تباين في ردود الأفعال فيبدو على ليلي الاستسلام والهشاشة النفسية مقارنة بالصلابة التي يمتلكها أطلس، وللأسف خلال ساعتين لم يمتلك صناع الفيلم القدرة على تفسير هذا التباين دراميًا.
غادرت قاعة العرض يرافقني شعور الملل والخيبة، لأن المعالجة لا ترتقي للموضوع ولا حجم الضجة الإعلامية المرافقة للفيلم، وتمنيت لو منحنا الفيلم قليلًا من المتعة البصرية التي للأسف كانت شحيحة، خصوصًا أن أحداث الفيلم تملك مقومات تسهم في خلق صورة بصرية ساحرة فالأحداث تقع في مدينة بوسطن الجميلة والبطلة تمتلك متجرًا للأزهار، لكن المدينة تبدو هامشية والمعرض غامق وكئيب. وكأن عدسة الكاميرا انحازت لإبراز جمال البطلة وتنوع أزيائها ووسامة البطل ولون بشرته عوضًا عن المكان، ليبدو السرد لنجوم خرجوا للتو من إحدى روايات عبير والتي رافقتنا في مرحلة المراهقة.
اقرأ أيضا: «أيام الرصاص»… رحلة في مجتمع ما بعد الحرب