«خارج الزمن Hors du temps» للمخرج الفرنسي أوليفييه أساياس، عودة إلى فترة قريبة بعيدة عشناها جميعاً ولا تزال في الذاكرة، رغم انها تفتّتت بسرعة؛ زمن الجائحة الذي جلسنا نتأمل خلاله ما نحن عليه من دون أن نفهم الكثير ممّا يحيط بنا من لبس وغموض. مع هذا العمل الحميمي، يعود صاحب «كارلوس» إلى عزلته الشخصية التي قرّبته من الثقافة والفنّ والانشغال بمستقبل السينما، من خلال أفكار مرمية على مساحة بيضاء أشبه بمسوّدة من كثرة ما تمنح الانطباع بأنها غير مكتملة، بل تصلح لتكون ورشة متواصلة لتفكيك ملامح عالم ما بعد الجائحة.
إنها الجائحة/الحجّة باعتبارهما ثقباً نتسلل منه للتأمل في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، على ضوء المتغيرات التكنولوجية التي لاحت في الأفق وطرحت حلولاً بديلة للتعامل مع القيم، وفي مقدمها العمل. بعد انتهاء الحجر الصحّي، كان عالم السينما يتوقّع سيلاً من الأفلام التي تتناول تلك الفترة، لكن يبدو أن للسينمائيين رغبات أخرى لا تتقاطع بالضرورة مع توقّعاتنا، أو ربما ثمة حاجة إلى المزيد من الوقت مع أخذ مسافة، لتناول ما عَبَر في وجداننا تاركاً فيه آثاراً لا نعيها ربما.
«خارج الزمن» عمل رصين متمهّل الإيقاع، يأخذ من الطبيعة في زمن الأزمة، مسرحاً لتسكّعات بول (فنسان ماكاين، الأنا الأخرى لأساياس)، حيناً للقاء معالِجته النفسية، وحيناً لتبادل قبلة شاعرية مع حبيبته. هذا فيلم يجمع العائلي بالشخصي، الجدّة بالأم، الذكريات بالأشباح. أساياس مخرج تكوّن وعيه بالثقافة والفنّ في زمن معين في باريس، وفيلمه يكشف رغبة في التعري الروحي والنفسي والسينمائي، وهو على عتبة السبعين. عن هذا كله، كانت المقابلة الآتية معه خلال مشاركته في مسابقة الدورة الأخيرة من مهرجان برلين السينمائي.
* هل تعتقد أن «خارج الزمن» هو أقرب الأفلام إلى شخصك؟
– نعم. خطرت لي الفكرة في لحظة محددة، في نهاية الإغلاق. لم أرغب في هذا الفيلم قبل ذلك. لم تكن في نيتي أن أنجز فيلماً خلال فترة الإغلاق، لكنني كنت في حاجة إلى فهم ما يحدث من حولي. كانت لحظة معقّدة لي. بدأتُ في تدوين الملاحظات، فقط لأتذكّر مشاعري، لكنني واجهتُ أشياء كثيرة. شعرتُ بالارتياب حيال الأحداث. وكان هناك سبب وجيه. لقد مررنا بأوقات عصيبة. كنت محظوظاً لأنه كان لديّ مكان في الريف يمكنني الاعتكاف فيه، ومع ذلك كنّا محاصرين بالموت والدمار. وبقدر ما حاولت أن أرى الأحداث من منظور كوميدي، لم أنسَ البتة أنني في زمن مأسوي. أحسستُ بتلك الحاجة إلى تدوين ملاحظات عمّا كنت أعيشه، فتحوّل الأمر إلى سلسلة من اللحظات على الشاشة. عندما تتعامل مع شيء أكبر منك ومن الجميع، فطريقة التعامل الوحيدة معه هي أن تكون صادقاً حياله. لذلك، بعد تدوين الملاحظات، أدركتُ أنه من الممكن أن يكون هناك فيلم تجريبي متواضع. والطريقة الوحيدة لصنعه كانت أن أذهب أبعد قليلاً نحو السيرة الذاتية وأن أخرج من حيز الراحة الذي أنا فيه.
* أين الخط الفاصل بينك وبين ذكرياتك؟ ما مدى أهمية التوازن بالنسبة لك؟
– التعليق الصوتي صادق تماماً. إنه صوتي. هذه المرة الأولى التي أستخدم فيها صوتي. فأنا لم أمثّل في أفلامي من قبل، وهو أمر لا أجيده، لكنني أردتُ تجربة الصوت. كلّ ما يقوله الراوي مستمد من ذكريات طفولتي وأماكن حقيقية ووقائع حقيقية، فالفيلم عن الدوران بين الماضي والحاضر. وهذا الحوار بين الماضي والحاضر يخص الممثّلين. كنت، في البداية خائفاً لأنه مبني على علاقتي بأخي وعلى ما كان يحدث في المنزل خلال الحجر. انه شيء حقيقي، لكنه أصبح شيئاً آخر بمجرد أن أعطيته للممثّلين.
* عندما اعتزلتَ في الريف، هل كنتَ تفعل ما نراه في يومياتك، من ترك التسوّق في الخارج خوفاً من الوباء… إلخ؟
– نعم، حدث بالضبط كما وصفتُ في الفيلم. كان هناك بقّال في القرية بالقرب منّا. كنّا نطلب حاجياتنا عبر الإنترنت، وهذا شيء جديد تماماً. في السابق، لم نكن نشتري البقالة عبر الإنترنت من متجر صغير في قرية صغيرة، وفجأةً أصبحنا نفعل ذلك. وأصررتُ على أن نترك كلّ شيء في الخارج لبعض الوقت. هذا أضفى عنصراً كوميدياً، رغم ان الأمر لم يكن كوميدياً عند حدوثه. لم يكن لدينا أدنى فكرة عمّا كان يحدث، أو أي خبرة سابقة حول كيفية التصرف أو التكيف مع شيء أكبر منّا. كنت حذراً جداً طوال الوقت. شعرتُ أنني مهووس.
* هل إنجاز مثل هذا الفيلم عملية علاجية؟
– من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، لأنني لا أعتقد أن الفن يداوي الجراح، يمكنك أن تحرر نفسك من قلقك، من خلال عملية التعبير عنه أو وصفه. الأمر أشبه بنكء الجراح، والفنّ يزيدها سوءاً. عليك أن تواجه ذلك. هذه الأشياء عادةً يتركها الناس وراءهم ويتغلّبون عليها. ولكن، إذا قررت أن ترويها أو تكتب عنها وتصنع فيلماً منها، فهذا يعني أنك ستعيش مع تلك المخاوف لفترة أطول بكثير.
* الفيلم يتأمّل أيضاً في مستقبل صناعة السينما. لكنني لا أعتقد أن الكثير من الأشياء قد تغيّر منذ ذلك الحين.
– صحيح. لكوني منهمكاً بصناعة الأفلام، أعتقد أنني كنت مهتماً بشكل خاص بهذه المسألة. صالات السينما كانت مغلقة وتصوير الأفلام متوقّف. لذلك، لم تكن لديّ أدنى فكرة كيف سيكون مستقبل السينما. كنت أعتقد أنه لا يوجد جواب سهل. بدت الجائحة مناسبة للنظر إلى الفنّ نظرة طوباوية، والتفكير بالفرصة المتاحة لإعادة اختراع السينما، لعلها تشرع الباب لأساليب جديدة. جاءت الكورونا في أسوأ حقبة تمر بها السينما، ممّا أثار تساؤلات حولها. سرّع الوباء عملية كانت بدأت قبل ذلك. التوقّف على هذا النحو ساعدنا في إعادة اختراع علاقتنا بصناعة الأفلام. لكن، لا أعتقد أن ذلك الاختراع قد حدث فعلاً.
* توقّعنا المزيد من الأفلام حول الجائحة، لكن هذا الأمر لم يحدث.
– أحد الأسباب التي جعلتني أوظّف الكثير من الوقت لإنجاز هذا الفيلم هو أنني كتبته مرة أخرى في نهاية الجائحة. ما كنت سأتمكن من كتابته الآن، لأنني نسيتُ تفاصيل ما عشته. ما حدث بعد الجائحة هو مجرد عملية محو للأشياء غير السارة من حياتنا وذكرياتنا. أنا أيضاً كنت أعتقد أنه سيكون هناك سيل من الأفلام حول فترة الحجر. لكن هذا لم يحدث. لم يأتِ التسونامي الذي كنّا نتوقّعه.
* الفيلم أعادك إلى بداياتك في صناعة الأفلام بسبب الموازنة المحدودة.
– نعم، صوّرته في 20 يوماً. لقد أعادني فعلاً إلى الفترة التي كنت أصنع فيها الأفلام بظروف مشابهة. أردتُ أن أكون خفيفاً قدر الإمكان. وددتُ الاستغناء عن كلّ ما هو غير ضروري والاكتفاء بالبساطة.
* السينما كانت في أزمة خلال الجائحة. كيف حالها الآن؟ لقد خرجنا من الجائحة ولكن وضعها لا يزال متأزماً.
– في الأساس، لم يتغير الكثير. المشاكل لا تزال هي هي. دائماً ما أقتبس هذه المقولة: «إذا كنت تريد ألا يتغير شيء، فعلى كلّ شيء أن يتغير». الطريقة التي تطورت فيها السينما لها علاقة بالثورة الرقمية واقتصاديات دور العرض. أنا لستُ في صدد التشكيك في الوسائط أو محاولة اكتشاف كيفية صنع أفلام مختلفة مع اقتصاديات وأسواق مختلفة. أعتقد أن ما يتغير هو علاقتنا الشخصية بعملنا. إنه شيء نحاول فهمه على نحو فرداني. لو استمرت الجائحة، كان من الممكن إنجاز أفلام بموازنة محدودة حيث يمكنك إلى حد ما التحكم في ما تنجز. بالنسبة لي، بدا الأمر أشبه بثورة الانطباعيين في الفنّ التشكيلي. الانطباعيون حملوا اللوحات وخرجوا بها. خرجوا من المرسم، وبدأوا يتأملون الطبيعة وكيف تتغيّر الحياة في ظلّ الطبيعة جاعلين منها موضوع أعمالهم. وهكذا اخترعوا الفنّ التشكيلي الحديث. لذا، أعتقد أنه بالنسبة لي، كانت إحدى طرق التعامل مع تحولات السينما هي القول: «حسناً، الأفلام أصبحت أثقل وأثقل، ربما حان الوقت للعودة إلى الصفر. لمحاولة إعادة اختراع البراءة في السينما. عندما تفشّى الوباء، بدا الأمر كأنه لحظة تحوّل. كلّ شيء تجمّد من حولنا. كان في إمكانك أن تجلس وتفكّر في ما تفعله وفي أساليب عمل جديدة. اعتقدنا أن هناك إمكاناً لتحوّل كبير، لكن هذا لم يتحقّق بالكامل، أو ربما تحقّق ولا نعيه».
* تناولتَ أربعة أجيال في الفيلم. هل يمكن القول أنه عن التوارث، خاصةً بسبب الخاتمة؟
– أضفتُ تلك الخاتمة لاحقاً. لم تكن في السيناريو الأصلي. تردّدتُ قليلاً في صنع هذا الفيلم. لم أكن متأكّداً أنني أريده أو أنني مستعد لصنع فيلم في منزلي. تردّدتُ كثيراً، واستمررتُ في تعديل تفاصيل في السيناريو. في مرحلة ما شعرتُ أن هناك شيئاً ما مفقوداً. وأدركتُ أن ما كان مفقوداً هو تلك الخاتمة. فجأةً، وجدتُ انه من المنطقي وضع علاقة بول بابنته في الواجهة، على أن تكون الابنة الشخصية الرئيسية في الفيلم بطريقة أو بأخرى.
* ماذا عن الاقتباسات والمراجع الثقافية التي يعج بها الفيلم؟
– في فترة الإغلاق، حظينا بالكثير من الوقت. فرحتُ استكشف مكتبة والدي. تلك المكتبة في منزلنا عادت فجأةً إلى الواجهة. نشأتُ في ذلك المنزل، قبل زمن الإنترنت. في ظلّ العزلة الشديدة، كانت هذه المكتبة النافذة الوحيدة التي أطل من خلالها على العالم. فجأةً، وجدتُ نفسي أتصفّح كتب والدي التي كنت ألتقطها عشوائياً.
اقرأ أيضا: «إنه ينتهي معنا»… أرباح مليونية لخيبة أمل سينمائية