فاصلة

مقالات

أفلام هوليود الدينية… إعادة تشكيل للسينما أم مجرد عودة عابرة؟

Reading Time: 6 minutes

مقدمة: تهيئة المشهد

دائمًا ما كانت السينما منذ نشأتها أقرب لجهاز رصد فني حساس لتغيرات المجتمعات وتحولات اهتمامات المجموعات المتباينة فيه، تستشعر الموجات التي تمور تحت السطح وتفسح لها مكانًا قد يكون مخبوءًا في ثنايا السرد السينمائي، أو تدع له اتخاذ عجلة قيادة النص والصورة. وفي مشهد سينمائي طالما ارتبط بالمُثُل الليبرالية والسرديات العالمية، تشهد السينما الأمريكية منذ فترة تحولاً ملحوظاً مع بروز الأفلام التي تحمل رسائل إيمانية وقيم محافظة.
في عام 2023، وعلى غير توقع، برز فيلم «صوت الحرية  Sound of Freedom» واحدًا من الإنتاجات الناجحة في شباك التذاكر، ليبرز أن هناك طلبًا على الأفلام ذات الرسائل الإنسانية والتي تميل للمحافظة. تجاوزت إيرادات الفيلم 250 مليون دولار عالمياً، متفوقاً على العديد من الإنتاجات الضخمة خلال موسم الصيف. ويصبح نجاحه بالنسبة للمنظرين السياسيين والاجتماعيين دليلاً على صعود التيارات المحافظة وحضورها في المجتمعات الغربية ولا سيما الولايات المتحدة، وامتداد هذا الصعود من ساحة السياسة إلى ساحة المال وموازينه متمثلة في شباك التذاكر الأمريكي.


ساهمت مبادرات مثل نظام «ادفع مقدمًا للآخرين»، وهو نموذج يتيح للجماهير شراء تذاكر مسبقة يمنحونها لأشخاص آخرين دعمًا لأفلام معينة، وكذلك حملات التعبئة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في تعزيز نجاح أفلام دينية مثل «غير مخطط له 2019 Unplanned». يروي الفيلم الذي يستند إلى قصة حقيقية تجربة مديرة عيادة إجهاض تتحول إلى ناشطة مناهضة للإجهاض بعد مواجهة تحول شخصي. لم تعزز هذه الاستراتيجيات إيرادات شباك التذاكر فقط، بل وطدت أيضاً شعور الجماهير بالانتماء إلى القيم والمبادئ التي تجسدها هذه القصص.

 على سبيل المثال، حقق فيلم «المختار 2023 The Chosen One»، وهو عمل درامي يستند إلى رواية «American Jesus» ويتناول قصة صبي يكتشف أنه قد يكون المسيح المخلص، نجاحاً لافتاً على الشاشة الكبيرة. ورغم توفره مجاناً على بعض المنصات، إلا أن عرض حلقاته في دور السينما حقق إيرادات بلغت 31 مليون دولار، مما يُعد إنجازاً بارزاً لمحتوى متاح مجاناً.

يعكس هذا الإقبال المتزايد حاجة المجتمع لقصص الإيمان والأمل، ويكشف عن تيار ثقافي يعبر عن المناخ السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة. 

ساعدت منصات مثل Fathom Events  و Angel Studios  في استدامة إنتاج الأفلام الدينية. قدمت الأولى فرصاً سينمائية للأعمال التي تواجه صعوبات في الوصول إلى دور العرض الكبرى، بينما مكّن التمويل الجماعي، الذي اعتمدته Angel Studios الجماهير من دعم المشاريع بشكل مباشر، مما عزز الولاء لهذا النوع من الإنتاج.

الجذور التاريخية للأفلام الدينية: بين الإرث القديم والنهضة الحديثة

يُعتبر فيلم ميل جيبسون «آلام المسيح Passions of the Christ» إنتاج 2004، من أبرز الأفلام الدينية الحديثة التي تجاوزت التوقعات التجارية والثقافية، محققاً أكثر من 612 مليون دولار عالمياً، ومؤسساً لموجة جديدة من الإنتاجات ذات الطابع الإيماني. كما أن نجاحه أظهر الإمكانات الهائلة لهذا النوع من الأفلام والتي يتردد صداها بين الجماهير بعيداً عن جدران الكنيسة.

ومع ذلك، تمتد جذور هذا النوع من الأفلام إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. في أوائل القرن العشرين، خلال حقبة الأفلام الصامتة، تم إنتاج أفلام ذات موضوعات دينية قوية بالفعل. وقد ظهرت أفلام مثل «من المهد إلى الصليب- From the Manger to the Cross 1912»، وهو تصوير لحياة السيد المسيح، وعكست مثل تلك الأفلام الإمكانات المبكرة للسينما كوسيلة لرواية القصص الدينية. حقق هذا الفيلم، الذي تم تصويره في فلسطين، نجاحاً تجارياً وفنياً، وأثر على تطور السينما الدينية لعقود. وبالمثل، أصبح فيلم «ملك الملوك The King of Kings 1927» للمخرج سيسيل ب. ديميل علامة بارزة في صناعة الأفلام الدينية، حيث مزج بين التقنيات السينمائية الكبيرة حينها والتصوير الوقور للقصص التوراتية.

ساهمت السينما الأوروبية في ذلك التيار قديمًا بإنتاجات مثل «آلام جان دارك The Passion of Joan of Arc 1927»، ثم في أعمال حديثة مثل «عن الآلهة والإنسان Of Gods and Men»، التي جمعت بين الروحانية والتحديات الإنسانية 

أفلام هوليود الدينية.
The Seventh Seal (1957)

من بين الإسهامات الرائعة الأخرى أيضاً فيلم «الختم السابع The Seventh Seal» لإنغمار بيرغمان الذي يتناول الإيمان والفناء وبحث الإنسان عن المعنى أثناء الطاعون، والذي لا يزال أحد أكثر المحاولات شهرة في البحث في معنى الوجودية بمفهومها الديني في السينما. وبالمثل، يتعمق فيلم «أورديت 1955 Ordet» في موضوعات المعجزات والإيمان، تاركاً انطباعاً دائماً باعتباره تحفة فنية في البحث اللاهوتي.

عكست هوليوود، في تحولاتها على مدار العقود الأخيرة، انحيازاً للروايات الليبرالية التي تركز على الحرية الفردية والتقدم الاجتماعي والعلمانية. في مواجهة هذا الاتجاه، جاءت عودة الأفلام الدينية كاستجابة ثقافية تعيد تبني قيم الإيمان والأخلاق التقليدية، مقدمةً رواية مضادة تستقطب جمهوراً واسعاً يشعر بالتهميش من السرديات السائدة.

شهد أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين انحسار الأفلام الدينية إلى حد كبير في الأسواق المتخصصة. وظهرت استوديوهات مستقلة مثل شيروود بيكتشرز التي أنتجت أفلامًا مُحافظة بميزانيات متواضعة. وتعرضت هذه الأفلام للانتقاد بسبب جودة إنتاجها المحدودة ولكنها نجحت في جذب ولاء الجمهور المسيحي، مما يدل على وجود سوق مخصصة لهذه القصص.

أفلام هوليود الدينية.
Ordet (1955)

جمهور الأفلام الدينية: بين التأثير المحلي والانتشار العالمي

تجتذب الأفلام الدينية جمهوراً خاصاً لا ينال اهتمامًا ضمن المشهد الأوسع للسينما. يتكون هذا الجمهور في المقام الأول من المجتمعات المسيحية المتدينة، والعائلات المحافظة، والأفراد الذين يشعرون بالغربة من الروايات العلمانية المتزايدة في هوليوود. تميل هذه الفئة السكانية إلى التمركز في المناطق الريفية والضواحي، مما يعكس الاختلافات الثقافية والإقليمية في القيم والتفضيلات الترفيهية.

يتردد صدى هذا النوع من الأفلام الدينية بقوة لدى المشاهدين في منتصف العمر وكبار السن، وخاصة المتزوجين والعائلات التي تبحث عن خيارات ترفيهية مفيدة. وقد أثبت فيلم مثل «ثورة يسوع Jesus Revolution» قدرته على جذب هذه الفئات السكانية وتحقيق نجاح في شباك التذاكر من خلال تناول موضوعات الإيمان والفداء. على سبيل المثال، حصل هذا الفيلم على دعم كبير في ولايات مثل تكساس وتينيسي، حيث روجت المجمعات الكنسية للفيلم بنشاط من خلال شراء التذاكر الجماعية والحملات المحلية.

وقد لعبت حملات التسويق الرائج Viral Campaigns دورًا بارزاً في تعزيز نجاح الأفلام الدينية من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر المحتوى بشكل سريع وفعال. على سبيل المثال، اعتمد فيلم «الله حي 2014 God’s Not Dead» بشكل كبير على الضجة التي أحدثها على الإنترنت، حيث تم استخدام فيديوهات قصيرة مؤثرة وشهادات شخصية لمشاهدي الفيلم عبر منصات التواصل الاجتماعي لتوليد حماس جماهيري واسع. 

تميل الأفلام الدينية إلى الحضور الجيد في المناطق الواقعة ضمن ما يسمى «حزام الكتاب المقدس»، وهي مناطق الجنوب الشرقي والجنوب الأوسط للولايات المتحدة، حيث تقدر هذه المجتمعات الروايات المنحدرة من الكتاب المقدس والتقاليد والأعراف الاجتماعية، وغالباً ما تتناقض هذه المناطق مع المراكز الحضرية، حيث من المرجح أن يتفاعل الجمهور مع القصص الأكثر علمانية.

أفلام هوليود الدينية.
The Ten Commandments (1956)

على الصعيد العالمي، بدأت الأفلام الدينية تلقى صدى في المناطق التي يقطنها عدد كبير من المسيحيين، مثل أمريكا اللاتينية وأفريقيا في جنوب الصحراء الكبرى وأجزاء من أوروبا. في أمريكا اللاتينية مثلاً، احتضنت المجتمعات الكاثوليكية والإنجيلية أفلامًا مثل فيلم «آلام المسيح 2004 The Passion of the Christ»، الذي لا يزال أحد الأفلام التي تحقق أعلى الإيرادات في المنطقة. وبالمثل، أظهرت البلدان الأفريقية ذات الأغلبية المسيحية إقبالاً على الروايات التي تستند إلى القيم الدينية، وغالباً ما يتم تكييفها لتعكس السياقات الثقافية المحلية.

كما ساهمت مناطق مثل الفلبين وكوريا الجنوبية، حيث تلعب المسيحية دوراً مهماً في الحياة الثقافية، في نمو هذا النوع من الأفلام على المستوى العالمي. على سبيل المثال، يدمج صانعو الأفلام المحليون في هذه البلدان بشكل متزايد الموضوعات الدينية في سرد قصصهم، مما يخلق تفاعلاً للأفكار بين الثقافات. مثال ذلك الفيلم الفلبيني «إجناسيو وليولا Ignacio de Loyola»، والفيلم الكوري الجنوبي «القساوسة The Priests 2015». ومع توسع منصات مثل استوديوهات أنجل ستوديوز على مستوى العالم، يستعد هذا النوع من الأفلام الدينية للوصول إلى جمهور أوسع، مما يدل على إمكانياته كقوة سينمائية عالمية.

أفلام هوليود الدينية.
Ignatius of Loyola (2016)

الأفلام الدينية: بين الجدل والتجديد

على الرغم من عودة الأفلام الدينية إلى الواجهة وتحقيقها نجاحًا تجارياً ملحوظاً، إلا أنها لم تسلم من الانتقادات. يرى بعض النقاد أن الأفلام الدينية تركز بشكل مفرط على إيصال الرسائل الأخلاقية على حساب الجودة الفنية، مما يجعلها أحياناً أقرب إلى الدعاية منها إلى الفن السينمائي.

إضافة إلى ذلك، وُجهت اتهامات لبعض الأفلام الدينية بأنها تخدم كأدوات للدعاية السياسية أو الدينية. على سبيل المثال، أثار فيلم «آلام المسيح The Passion of the Christ» جدلاً كبيراً بسبب تصويره العنيف لأحداث صلب المسيح، مما دفع البعض إلى اعتباره عملاً يعزز وجهات نظر محددة حول اليهودية والمسيحية أكثر من كونه عملاً سينمائياً يسعى لإيصال رسالة إنسانية عالمية. 

تمثل مسألة حضور الأديان الأخرى غير المسيحية تحدياً  أيضاً لهذا النوع من الأفلام، حيث يؤدي هذا التركيز الضيق إلى نفور الجماهير غير المسيحية، مما يحد من قدرة هذا النوع من الأفلام على تحقيق صدى بين الثقافات.

أفلام هوليود الدينية.
The Passion of the Christ (2004)

عودة متجددة أم ظاهرة عابرة؟

تمثل عودة الأفلام الدينية في الولايات المتحدة استجابة ثقافية أكثر منها مجرد اتجاه، مدفوعة بتحولات سياسية واجتماعية أبرزتها شخصيات «محافظة» مثل دونالد ترامب. وعلى الرغم من عدم وجود صلة مباشرة بين إدارته ونمو السينما القائمة على الإيمان، إلا أن المناخ الثقافي الذي نشأ خلال تلك الفترة جعل هذا النوع من المحتوى أكثر وضوحاً وقبولاً في السوق.

هذه العودة ليست مجرد ظاهرة عابرة، إذ حققت أفلام مثل «لا يسعني إلا أن أتخيل I Can Only magine» و«المتخطي Overcomer» نجاحًا تجارياً كبيراً، مما يشير إلى وجود قاعدة جماهيرية وفية. في حال عودة مناخ سياسي مشابه، قد نشهد المزيد من الإنتاجات الدينية التي تستهدف هذا الجمهور المتنامي.

ومع توسع هذا النوع من السينما عالمياً، يبقى السؤال: هل يمكن لهذه الأفلام أن تخلق مساحة للحوار بين الثقافات والأديان؟ أم أنها ستظل محصورة في جمهور محدد؟ في نهاية المطاف، نجاح هذه الأفلام يعتمد على قدرتها على المزج بين الرسائل الإيمانية والإبداع الفني، مع الحفاظ على قيمها الأساسية.

اقرأ أيضا: اختيارات نقاد «فاصلة» لأفضل أفلام 2024

شارك هذا المنشور

أضف تعليق