فاصلة

مقالات

أفلام أبي… أفلام أمي

Reading Time: 6 minutes

في ذلك البيت الجميل ذي الطوابق الثلاثة، الذي يطل شرقًا على المدرسة المسكونة بجني مكبلٍ بسلاسل منذ أيام تجارة العبيد، وفي غرفة البيت الأهم حيث رأسيّ غزال وناب فيل، كسرت أضلاع صائده رفسة من الحمار الوحشي؛ كنتُ أستيقظ قبل الجميع حتى لا تسرق الأفلام بابا وماما.

***

رأيتُ أبي مخطوفًا لأول مرة وأنا في الخامسة من عمري؛ وليمة لأصدقاء العائلة يرتشف أخبار الوطن الذي تركه وأصدقاؤه خائفين، قصص عن حروبٍ حديثة يتناقلون تفاصيلها وينثرون أسماء الضحايا، يتذاكرونها ثم يهشّونها بعيدًا حتى لا تنغص السعادات الطازجة، لا أذكر كيف انتقل الحديث من البنايات التي سقطت على سكانها والمعتقلين الذين تركوا عقولهم في السجون والقطط والكلاب التي زاد وزنها بسبب التهام الجثث، إلى السينما والأفلام. تتعالى الأصوات مطالبةً أبي أن يُمثّل مشاهده المفضّلة، يهب واقفًا لتقليد مشهدٍ بعينه، كان أبي آنذاك بشعر وشارب خالصَي السواد، بدون شعرة بيضاء واحدة، طالما شبه المعارف أبي بكمال الشناوي شابًا ثم كبيرًا على حد سواء.

كان المشهد من فيلمٍ هندي، بموضوع ظل هاجسًا لدى السينما الهندية لعقودٍ طويلة، الحب الذي يربط أهل الطبقات العليا بأهل الطبقات الأسفل في مجتمع يُقسم أبنائه طبقيًا بالسيوف والمطارق. في المشهد سيدة نبيلة تفقد أموالها في مكيدة من العائلة المنافسة، يراها المتسوّل الذي طالما عطفت عليه متشردةً في الأزقة فيقرّر أن يرد لها الجميل، كان عجوزًا نحيلًا بعينين واسعتين وشعر طويل، لا يرتدي سوى قطعة حال لونها تغطي ما يجب أن تغطيه، إنّها صورة الفقير الأكثر اكتمالًا في المخيلة الهندوسية، ترتجف يداه وهو يبحث في أسماله عن روبّية يمنحها للسيدة المحسنة، يمد يده خاشعًا لجلال اللحظة وهو يجود بكل ما يملكه لصاحبة الفضل، لم أرَ المشهد حينها، ولكنّي رأيت أبي، يرتعش وينظر في حزنٍ وتقديس إلى السيدة المتخيلة ويبحث في ملابسه عن القرش النحاسي كي يدسه في كف ممثلة غير موجودة راجيًا أن تقبل كنزه، يُتقن أبي تقمص الشخصية ويبدو واهنًا ونبيلًا وهنديًا للغاية، يضج تصفيق عالٍ في الحجرة ويتبادل الموجودون نظرات عدم التصديق، وقد يدمع البعض، يجلس أبي راضيًا بالأعين المُعجبة، رجالًا ونساءً، وينتقلون إلى حديثٍ آخر، كنتُ في الحجرة أصغر الموجودين، عيناي هما الأكثر إعجابًا، أشاهد بابا وهو يتحول إلى ممثلٍ لأقل من دقيقة، فأظل عالقة في تلك اللحظة، مأخوذةً تمامًا بأبي ممثلًا هنديًا.

 يغادر الضيوف، تُنظّف الأطباق من بقايا الأطعمة، وتُطفأ الأنوار وينام الجميع، أخرج من سريري وأقف في الظلام محدقة في البقعة التي كان أبي واقفًا فيها، فأعرف أنّ لأبي عالم خارج الأبوة والوظيفة ورعاية الأطفال، شيء ساحر وغريب؛ يمنحه كائنٌ اسمه السينما.  

***

في فترة الظهيرة تظل ملعقة طعامي مُعلّقة في الهواء، أنا وأمي على الأريكة البنية، وأمامنا التلفزيون، وفي جهاز الفيديو شريط أسود يعرض فيلمًا، تُطعمني ماما وعيناها مع الممثلة التي توشك أن تُفجع في طفلها، تغني له في حديقة المنزل الفسيح، فتتوقف أمي عن إطعامي مشدوهة بالحزن المتدفق ويدها ممسكة بالملعقة في الهواء، أناديها فلا ترد، عيناها تذرفان دموعًا تسيل ثم تختبئ في فتحة الثوب الأسود المورّد، مجتازةً السلسال الذهبي بالفراشة الملونة المثبتة في منتصفه، بين عظمتي الترقوة تمامًا. 

 تردد أمي مع الممثلة الفاتنة مقطعها الشبيه بالعويل: «تقول يا ماما يا قلب ماما»، يد أمي ممسكة بالمعلقة في الهواء، أتأمل الأصابع التي تفوح منها رائحة العطور والمنظفات، والإسورتين الذهبيتين المبرومتين، والملعقة التي جف الطعام عليها، أبدّل نظري بين الفيلم وأمي المأخوذة بالـ«شيء» الذي تعرّفتُ عليه للتو، وفهمتُ معنى أن يسرق الفيلم شخصًا، يسرق انتباهه ودموعه، لنفس السيدة – شادية الجميلة- صورة في غرفة أمي. شاهدت أمي كل أفلامها، وسافرت خصيصًا لتحضر مسرحية لها قبل أن أولد. عينا أمي على الشاشة، وعيناي على أمي. لم أكره تلك الممثلة التي تُبكي ماما، بل على العكس، كنتُ ألاحظ أنّها تغدو أخف وأكثر ارتياحًا بعد انتهاء الفيلم، رغم الجفنين المنتفخين والشهقات التي لا تزال تتردد حتى بعد توقف الدموع، في الليل أيضًا، أقف أمام الشاشة المظلمة واسترجع ما رأيت، فأعرف أنّ لأمي عالم خارج الأمومة، والطبخ، والاهتمام بالمنزل، وأتمنى أن تسرقني الأفلام مثلما سرقت أبي وأمي.

***

يحب أبي أفلام الجريمة، والإثارة (ثريلر) والرعب النفسي. حفظتُ منها وأنا طفلة «كلب آل باسكرفيل The hound of the Baskervilles» والكثير من أفلام هيتشكوك، ومثلما حدث مع تلك الفتاة التي تزوجت ذا اللحية الزرقاء، وأتاح لها كل حجرات القصر ما عدا واحدة، ظل فيلم واحد منهم يؤرقني، لا يتذكّر أبي اسمه لأنّه شاهده في سن صغير للغاية، لكنّه أعجب به، ما علق بباله أنه يبدأ بعبارة يتلوها من الذاكرة: «بإمكانك أن تشي بنهاية الفيلم، لكن إيّاك أن تقول البداية!»

راقت لي الجملة للغاية، وغبطت ذكاء الفكرة، عجيب أن تكون البداية هي المفاجأة لا النهاية، بحثتُ عنه طويلًا، لم أعرف اسمه حتى الآن. 

***

تشارلي تشابلن ممثل أبي المفضّل «ممثل عظيم وشجاع»، هذا رأيه الذي يردده من قبل التحاقي بالمدرسة وحتى أصبحتُ ناقدة أكتب عن الأفلام. أحب أبي تشابلن للغاية، ليس لدرجة أن يعلق صورته بالطبع، لم يعلق أبي صورًا إلا لأبنائه وأحفاده، عندما يسألني أحدهم لماذا قررتِ أن تصبحي ناقدة سينمائية، كنت لا أجد إجابة واحدة قصيرة في البداية، ثم لم أجد إجابة محددة، لكن في أحد الأيام، وأنا أمام الموقد أحاول أن أوازن بين الفيزياء والفن داخل قدر الطعام، ومض في ذاكرتي يومٌ من طفولتي، أبي يشاهد فيلمه المفضل «الأزمنة الحديثة Modern times» ومعه صديقه، يقول عمّو فلان إنّه لم يفهم المشهد الختامي، هل سيتزوج تشابلن حبيبته أم لا، يقول أبي: نعم، لأنّ الطريق المعبد يعني العمر الطويل والسعيد، خاصة أنّ الشمس مشرقة في السماء، يقتنع الصديق بالإجابة، أما أنا فتكبر هذه المعلومة داخلي: لكل شيء في الفيلم معنى، هكذا إذن. هل بدأت البذرة هنا؟ ربّما.

تقول أمي صراحةً إنّها لا تحب الأفلام الأوروبية والأمريكية، لكنّها تشاركنا البكاء ونحن نقرأ شفتي الصغير في الفيلم الصامت «الطفل The kid» وهو يتوسل إلى الشرطي الذي أخذه من والده عنوة: «بلييز»

أمّا أبي فكان يقول كل عشر دقائق عن تشابلن بطل الفيلم: هذا ممثل عظيم وشجاع!

***

هناك بطلات أخريات كنّ يجمّدن ملعقة طعامي في الهواء، ممثلة اشترت ماما كل أفلامها التي طالما أخافتني، أفلام تروي قصصًا مقبضة وشريرة، تنتهي غالبًا والسكين يجزّ رقبة البطلة أو مخدة تكتم أنفاسها أو رصاصة في الظهر الرشيق، أحزان مُعقّدة، ليست بسيطة وواضحة مثل أحزان «تقول يا ماما يا قلب ماما»، أذكر مشهدًا للبطلة ذات الشعر الغجري التي كانت أمًا مثالية منذ أقل من ساعة، وها هي مدمنة مخدرات محرومة من أطفالها بعد أن سرق زوجها أموالها، «الضائعة» هكذا كان اسمه، كنت أتهجّى بصعوبة اسم النجمة في بداية الأفلام، نون، وألف، ودال، وياء ثم دائرة عليها نقطتان، سألت أمي ما هذا الحرف قالت بأنّه: تاء مربوطة، وبعد أربعة أفلام قرأت الاسم كاملًا: نادية الجندي.

تقول أمي دومًا: «لا أحب الأفلام التي تشاهدونها، أحب الأفلام التي تحوي قصصًا»، بعدما كبرت فهمتُ أنّها تريد أفلام عن قصة كلاسيكية، ميلودراما، «أيامنا الحلوة»، مثلًا، وهدى (فاتن حمامة) تهوي على الأرض متشبثةً بالستارة بينما يمشي الأبطال الثلاثة في مرح وقد أولوها ظهورهم غافلين عن موتها أمام النافذة، «لو أنّهم استداروا فقط!» هكذا قال أحدهم وأنا طفلة، ومن يومها وعيناي على نوافذ البيوت في ساعات المشي المسائية ربما أنقذ حينها «هدى» ما. 

لا تفضّل أمي مشاهدة الأفلام الغربية، لكنّها أحبّت بشدة «ليون ذا بروفيشنال Lion the professional» و«سايكو Psycho». 

***

في سيّارة بابا، كنّا أطفالًا كثيرين، الجميع مشغولٌ بالحديث والضحك، وأنا أنتظر وصولنا إلى الجسر الطويل المُحاذي لمبنى الـ«مريديان» القديم قبل أن يختفي، إذ يُصفّر أبي لحنًا بعينه فور صعودنا الجسر، ذات اللحن كل مرة، لحنًا له وقع مرح وخفيف يردّده أبي ساهمًا على كل جسور المدينة، عرفتُ لاحقًا أنّه من سنوات طفولته الكبيرة، سمعه في فيلمٍ شاهده مرتين في السينما، تخيّلته فيلمًا سعيدًا للصغار، وهكذا رأيتُ في عقلي أطفالًا يصطفون باسمين ثم يركبون حافلات ملوّنة تأخذهم إلى باحات اللعب، بعد عشرين عامًا، شاهدتُ «جسر على نهر كواي» للمخرج ديفيد لين، وسمعتُ اللحن من شفاه الرجال المُنهكين، وهم يبنون الجسر، مُجبرين، كأسرى حرب، على بنائه للأعداء، والآن، كلما مشيتُ فوق جسرٍ صفّرت اللحن، فأنسى ديفيد لين وفيلمه ورجاله وجسره، وأتذكّر أبي.

***

من السينما عرفت أنّ أمي مُصابة بالـ«هيموفوبيا» أي الخوف من رؤية الدماء، يومها قدمتُ من حجرتي على صوت الرصاص، كانت تضع أمي يديها على عينيها في فزع، فتلقيتُ المشهد أنا: رجل، عرفتُ لاحقًا أنّه مُحيي إسماعيل، يطلق وابلًا من الرصاص على جنودٍ استلقوا على بطونهم، تتحرك أجسادهم في نزعها الأخير، ظل المشهد يسكنني كابوسًا فترة غير قصيرة، ليس بسبب الدماء، بل من أجل الظُلم البواح والقسوة غير المعقولة نحو الرجال المكبّلين، «الرصاصة لا تزال في جيبي» هذا هو اسم الفيلم، تلى ذلك الفيلم عشرات الدماء السينمائيّة التي أشاحت ماما نظرها عنها ورأيتها أنا، لأنّ الدماء الفنيّة لا تُخيفني.   

***

آخر فيلم شاهدناه نحن الثلاثة سويًا، كان «أغنية العصافير الدوريّة The song of sparrows» للمخرج الإيراني مجيد مجيدي، فيلم بديع عن أبٍ يحاول أن يوفر مالًا كي يشتري سماعة لابنته قبل الامتحانات.

***

عرفتُ في سنٍ صغيرٍ جدّا ماذا يعني أن تخطف السينما شخصًا ما، قبل أن أعرف ما هي السينما على وجه الدقة.

كبرتُ أنا وكبر والداي، تكومت الأفلام التي يحبونها، أفلام عربية، وأجنبية، وآسيوية.

 في كتابها «فن التمثيل السينمائي» ترجمة الراحل أحمد يوسف، تقترح كاثي هاس تمريًنا في فصل «الاسترخاء وفن الوجه»، تقول هاس إنّك إذا استرخيت وأغمضت عينيك محاولًا استحضار المشاهد السينمائية الأكثر تأثيرًا، فإن ما ستراه في نهاية المطاف هي وجوه البشر، لأنّها أهم ما في الأفلام، «وجوه لممثلين مشهورين، ووجوه لأناس غير معروفين، وجوه في الزحام، وجوه لأطفال وعجائز وجميلات وأبطال»، تقول هاس أيضًا إن الرابط بين كل هذه الوجوه هي أنّها جميلة، جميلة لأنّها لمستك بطريقتها الخاصة، توقفتُ عند هذا الفصل وأجريت التمرين، وصدقت كاثي هاس، رأيت وجوهًا عديدةً، تتداخل وتذوب، وجوهًا مؤثرة وحميمة، تهدر مثل الشلالات، ألتقط منها الآن، بصعوبة، عبد الله غيث في «الحرام»، وبسام كوسا في «الكومبارس»، ومحمد أبو الوفا في «الفيل الأزرق»، ونادية عزت في «معبودة الجماهير»، وأحمد السقا في «تيتو» في مشهد التقاط الصور تحديدًا، ونادلًا لا أعرف اسمه من  الفيلم الفرنسي «مصعد إلى المقصلة»، والفتاة العمياء من «أضواء المدينة City lights»، والصبي الجميل بيورن أندريسن من «موت في البندقية Death in vinice» والهندي الأحمر من «أحدهم طار فوق عش الوقواق One flew over the Cuckoo’s nest»، ونرجس عباد من «عشرة أيام قبل الزفة»، والفتاة المحترقة من «درب الهوى»، ووجه شديد البياض من «شرف كاترينا بلوم المهدور The lost honor of Katharina Blum»، ومئات الوجوه من أفلام الإيطالي تورناتوري، وقارع طبل من «عدّاء الطائرة الورقية The kite runner»، وعبد الله البراق بعينين نديتين من ختام «آخر سهرة في طريق ر»، وكريتي مالهوترا قُبيل الانتحار من «مذكرات مومباي Mumbi memoirs»، ووجه المراهق المتهم بجريمة قتل والده في «اثنا عشر رجلًا غاضبًا 12 angry men»، لكن الوجهيْن الذين تسيّدا عينيّ المغمضتين، كانا لأبي وأمي، من أيام طفولتي عندما سرقتهما أفلامهما المفضلة، وهكذا، سرقاني أنا أيضًا.  

 اقرأ أيضا: أدريان برودي: بعد الأوسكار قيل لي: «لا تتغيّر ابقَ حقيقياً»

شارك هذا المنشور

أضف تعليق