بعد فيلمين قصيرين، جاءت الخطوة السينمائية الكبيرة الأولى للمخرج النرويجي هالفدان أولمان تونديل، مع ضغوط ثقيلة. جزء من الضغط هو لمجرد أنه يحمل ألقاباً شهيرة، ويأتي من عائلة سينمائية كبيرة، تضعه في مواقف مقارنة مع عائلته. هالفدان هو حفيد المخرج إنغمار بيرغمان والممثلة ليف أولمان، عُرض فيلمه الطويل الأول «أرماند – Armand» في «مهرجان كان»، وحصد جائزة الكاميرا الذهبية، التي تعطى لأفضل فيلم أول.
بعد «كان»، حصد الفيلم جوائز عدة، إلى أن رشحته النرويج لتمثيلها في جوائز الأوسكار القادمة. ومع ذلك، لم يؤثر هذا على صنع أول عمل طويل له، حيث يُظهر حساسية شخصية لا تشير إلى حساسية أقاربه المشهورين. لا يعيد هالفدان اختراع اللغة السينمائية أو الدراماتوجية مثل جده، لكنه يكرم إرثه من خلال فيلم ذكي ومثير يختبر حدود السلوك البشري، بناءً على فرضية بسيطة.
ولم يكن بإمكانه تصوّر مكان أفضل من مدرسة ابتدائية لتذكيرنا بأن البلوغ أو الأبوة والأمومة ليسا مرادفين للنضج. بعيداً عن الجوائز والروابط العائلية، يبدو فيلم هالفدان كأنه اختبار لتطوير المهارات السينمائية أكثر من كونه فيلماً بفكرة ومسار واضحين. إنه يطرح موقفاً قوياً ويفعل ذلك بنبرة غريبة وشخصية، لكن تلك الغرابة التي تمنحه لمسة خاصةً إلى حد ما خلال النصف الأول من الفيلم، تصبح أكثر ثقلاً في ساعته الثانية. هناك دراما إنسانية مزعجة ونفسية تتحول لاحقاً إلى نوع من اللعبة الكوريغرافية والتجريبية والحالمة.
أرماند، هو اسم صبي يبلغ ست سنوات. لا نراه ولكننا نسمع عنه من معلمته ومسؤولي المدرسة. حسب ما نسمع، أرماند صبي مضطرب، متورط في شيء معقد مع زميله في الفصل. وعلى الرغم من عدم رغبة أحد في ذلك، إلا أنه يجب استدعاء الأم، لحساسية الموضوع.
المعلمة سونا (ثيا لامبريشتس فولين)، تبدو الشخصية الأكثر واقعية ومصداقية، ومتوترة بشأن الموقف، بينما مدير المدرسة جارل (أويستين روجر) وزميلته أجسا (فيرا فيلجوفيتس)، لا يريدان أن يفلت الأمر من أيديهما. بالطريقة البيضاوية التي يروي بها هالفدان قصته، نبدأ تدريجاً برؤية ما يحدث.
إليزابيث (ريناتي راينسفي، نجمة فيلم «أسوأ شخص في العالم»)، هي والدة أرماند، ممثلة مشهورة لها ماضٍ مضطرب أو معقد. لكنّ سارة (إلين بيترسون) وأندرس (إندري هيلستفيت)، والديّ الصبي الذي يُزعم أنه تعرض للتحرش الجنسي من قبل أرماند، مستخدماً مصطلحات للبالغين، يريدان رفع شكوى وإنهاء سلوك أرماند. تصبح المواجهة حتمية، خصوصاً عندما يبدأ الماضي الأسري للعائلتين المتقاربتين بالظهور على السطح.
في دوامة من العصبية والادعاءات والشكاوى، يبدأ هالفدان بفتح بوابات الغرابة أكثر فأكثر. ليس للقضية نفسها، لكن لشخصياته البالغة. ما يفعله النرويجي هو تقديم موقف نموذجي لدراما اجتماعية وعائلية في سياق مدرسة، وتحويله إلى دراسة نفسية لامرأة على وشك التعرض لبعض الانهيارات العصبية. إن الجو الغريب الذي يقدمه أرماند في الجزء الأول من الفيلم، يولد إحساساً بعدم الارتياح والغرابة، لكنه إلى حد ما موضع ترحيب.
ما الذي يحدث لإليزابيث حتى تنتابها فجأة نوبات ضحك طويلة لا يبدو أنها تنتهي أبداً؟ لماذا يستمر أنف أجسا في النزيف؟ ما الذي يوجد في تاريخ العائلتين الذي يجعل كل ما حدث، أو يفترض أنه حدث، بين أطفالهم يثير الكثير من النظرات والكلمات المحملة بالاستياء؟ هذه المخاطرة في الإخراج تقع ضمن حدود الواقعية، مع مخرج يجرؤ على الذهاب إلى هوامش الكوميديا السوداء وحتى السخيفة للحديث عن موضوع خطير مثل الاعتداء ذي الطبيعة الجنسية على ما يبدو.
باستخدام ممرات وقاعات تلك المدرسة الضخمة -الموقع الوحيد في الفيلم- كأنها ممرات ذهنية لمجموعة تحمل ميراثاً عائلياً ثقيلاً وتستمر في تعقيده أكثر فأكثر مع كل جيل جديد. سيصبحون جميعاً محصورين داخل جدران فصل المدرسة، والمكاتب والممرات والسلالم والمختبرات حيث يتم الكشف شيئاً فشيئاً عن نسخة من الحقائق ومعها تتكاثف الظلال والشكوك، مدعومة بإبقاء الأطفال دائماً بعيداً عن الشاشة، والسماح للحوارات بالتأثر بثمار الأحكام المسبقة والضغائن القديمة.
لكن السياق في مبنى المدرسة يغير تطوراته دائماً. أولاً وقبل أيّ شيء لأن المخرج قام بالتدريس في مدرسة ابتدائية ويعرف الديناميكيات التي تحدث داخلها جيداً، ثم لأن البيئة النرويجية تخلق مناخاً معيناً منذ البداية. بفضل الدولة التي تتدخل كثيراً وبإيجابية في القضايا الاجتماعية، فإن موظفي المدرسة لديهم بروتوكولات تدخل تحت تصرفهم تمت دراستها على المستوى التربوي. مع ذلك، في هذه المناسبة، لم يتوقع أحد التحرش الجنسي في سن السادسة. والمعلمة المسكينة، التي فوّضها المدير في البداية للتعامل مع القضية، لا تعرف من أين تبدأ، وفي الوقت نفسه، فإنّ ممثلي المدرسة، غير القادرين على ممارسة عملية محايدة ومدروسة، سيسمحون لأنفسهم بالوقوع في دوامة الأسرة.
من هناك، يبدأ الفيلم بالتعمق في الديناميكيات التي تحدث بين المدرسة والأسر، وبين الأسر نفسها وداخل كل منها. إن هالفدان، يسمح لنفسه بتسلسلين يبتعدان عن الواقعية الصارمة ولكنه ينجح في تقديم مواقف للمشاهد حيث تمتزج الابتسامة بالتوتر الناتج عن موقف غير عادي لكن ممكن. ومن الإيجابي أيضاً أن الطفلين لا يشاركان في النزاع، ولا حتى في ذكريات الماضي. إن تفسيرات الكبار هي التي تشكل مركز المشهد، مع الإسقاطات التي تنبثق من تجربتهم العلائقية التي تخضع لتقييم المشاهد المدعو، مثل الشخصيات على الشاشة، لمحاولة فهم أين تكمن الحقيقة.
الكتابة والتمثيل هما الجانب السائد في «أرماند»، والنص يعكس في الواقع بديهيات المسرح البرجوازي الإسكندنافي، والنفاق والسخرية والتلاعب. بالنسبة إلى راينسفي، تسمح شخصيتها لها بإعطاء كل ما لديها، وتمرّ عبر عشرات المشاعر، من البرودة إلى الدموع، من الضحك إلى الرقص، من الصمت الكئيب إلى الإغواء الأكثر جنوناً. إن هالفدان لا يفرض شخصياته النسائية على القوالب النمطية الأولية ولا ينحاز إلى أي منها. بل إنه يمنحها مساحة واحدة بل مساحات عدة داخل المدرسة حيث ينتهي بها الأمر إلى الكشف عن نفسها كما هي في الواقع من خلال اعترافات ثقيلة مع بقية الشخصيات.
في الجزء الثاني من الفيلم، يبدأ هالفدان بأخذ فيلمه إلى حدود السوريالية، برقصات وموسيقى حميمية وغرائزية. قد يجد بعضهم هذا الجزء غير مفهوم ومحبطاً، خاصة إذا كان يتوقع تطوراً متماسكاً للحادث مع الطلاب. إلى حد ما، من الممكن انتقاده باعتباره شكلاً من أشكال التهرب السردي، لكنني أعتقد أن مشهده السمعي البصري يعوض عن الافتقار إلى الحل الصريح، وخاصة مع التسلسل النهائي الشعري تحت المطر.
هذه الرحلة، التي يقترحها هالفدان تسأل عما أصبح عليه الطفل الذي كنا عليه ذات يوم، والأسوار التي أقمناها حول رقصاتنا الداخلية، داخل دوامة أدراج المدرسة المروعة، وفي ممراتها التي تحاصرها أجواء شبحية. في «أرماند»، يقدم النروجي عجائب الأفكار الشكلية، على حافة أفلام الرعب، ويقدم حقيقة مرعبة خلف الأبواب المغلقة حول بوصلاتنا الحميمية المضطربة.
اقرأ أيضا: «سانتوش»… ما معنى الهزيمة؟