النموذج الكوميدي هو النموذج الوحيد الذي بإمكانه النجاة من ورطة الثنائية القيمية كالخير والشر أو الأبيض والأسود، حيث يمكنه أخذ القصة إلى مستوى متطرف بخفة ومرونة، فالكوميديا تكتسب جزءًا كبيرًا من قيمتها عبر النقد المباح، فلا يمكن التعاطي مع النموذج الكوميدي بنفس الجدية، ولا حتى نقده بمعايير النوعيات الأخرى.
للكوميديا خصوصية تمنحها طبيعة مراوغة، وتوفر لها القدرة على تجاوز ما هو مباشر ووعظي، ولهذا نلاحظ ميل صناع السينما في المجتمعات الأميل للتحفظ إلى تقديم القضايا الأكثر حساسية داخل قوالب كوميدية، لقدرتها على اختراق الجدران المشيدة حول الأفكار، ومعالجة إشكاليات مثيرة للجدل بأسلوب ساخر وكاريكاتوري.
هذا هو الطريق الذي اختاره صناع فيلم «أرزة» للمخرجة ميرا شعيب، الذي يستلهم نموذجه وتقنيته السردية من تحفة الواقعية الإيطالية «سارقو الدراجة Bicycle thieves»، إذ يختبر الفيلم إشكاليات وعُقد ضخمة في إطار حادثة شديدة البساطة، مثل سرقة دراجة هوائية، التي استبدلتها المخرجة بسرقة دراجة نارية كنوع من التحديث. ربما يبدو الأمر بسيطًا بالنسبة للبعض إذا نظروا من الخارج، فسرقة موتوسيكل ليست واقعًا كارثيًا بالنسبة للبعض مثلما كانت الدراجة في فيلم فيتوريو دي سيكا، بيد أنه مع تتابع الأحداث نجد أن حياة أسرة كاملة تحولت لتتمحور حول تلك الواقعة، لتصبح اختبارًا قاسيًا لما هو مقدس، بداية من العلاقات الأسرية الحميمية، مرورًا بالعلاقات العاطفية، وصولًا إلى مستوى أكثر شمولية ينتقد ظواهر العنصرية والطائفية في لبنان. الأمر أشبه بكرة ثلج تتدحرج من فوق منحدر لتتحول من مجرد كرة ضئيلة إلى كيان ثلجي ضخم يأكل كل ما في طريقه.
يدور الفيلم حول أرزة (دايموند بو عبود)، وهي أم مثابرة تحاول جاهدة خلق منفذ تجارة لمخبوزاتها ومعجناتها، فتخاطر بكل شيء وتشتري دراجة نارية وتعهدها لابنها كنان (بلال الحموي)، الذي يرى الحياة داخل لبنان لعنة تطارده، ويسعى للهروب إلى أوروبا بحثًا عن مستقبل أفضل. على الناحية الأخرى، تضطر أرزة للتعاطي مع أوهام أختها بشأن انتظار زوجها الذي هجرها منذ سنوات.
ذلك التركيب المعقد يتبدى شديد الخفة في بداية الفيلم، بمزاج لوني فاتح وأزياء ملونة وطبيعة مكانية لطيفة، واستخدام الإضاءة الطبيعية في معظم لقطات الفيلم. تأخذ السردية منحى آخر عندما تتعقد الأمور، لكن النمط البصري لا يتغير، بل تدع السخرية تتسلم القياد ليتبدى من خلالها ثقل الحكاية من دون المساس برونق الصورة، فمنهجية الحكي هنا تعتمد على أسلوب الحوار الساخر، في إخلاص لنوعية الفيلم خفيف الظل، وهو ما منحه مساحة مختلفة في طرح تيمات سردية وبصرية وصوتية مميزة، على سبيل المثال، مخبوزات أرزة التي تتمحور حولها الحكاية بطريقة غير مباشرة، وطبيعتها الساحرة، ذلك الموتيف الذي أنقذ سردية المخرجة في كثير من المواضع، فالنمط البصري الناعم خلق مساحة لاستكشاف الطبيعة الساحرة للطعام، لم تتوفر لمعظم النوعيات الأخرى.
تقدم ميرا شعيب المعجنات/المخبوزات ــ الطعام بشكل عام ــ كمُخلّص يتجاوز تأثيره كل البُنى الطائفية والتقاليد العرفية، وتحل بروائحها وطعمها اللذيذ كل الإشكاليات مهما كان شكلها، وتعالج الطبيعة الطائفية بمرونة ونعومة أضافتا للفيلم الكثير، خاصة أن التيمات المتعلقة بالطعام عادة لا تتعاطى معها السينما العربية بشكل كافٍ، رغم ضرورة وجودها كجزء من اليومي وطبيعة تأثيرها المتجاوز للتعقيدات، فالطعام أداة ساحرة إذا قدمها المنتج الإبداعي بطريقة ذكية، وعرّفها المخرج كآلية ضرورية لها قيمتها في دفع السرد للأساس وليست كأداة هامشية.
على الناحية الأخرى، تختبر المخرجة الروابط الأسرية المقدسة في سرديتها انطلاقًا من رسوخها واهميتها في المجتمعات العربية. تتعرض لها كخط سردي مختلف يُركّز أكثر على علاقة الابن بأمه وخالته، والتي نلمس توترها مع تقدم الفيلم. فالفجوات الجيلية تمنح كل واحد منهم طبيعة ورؤية مختلفة عن العالم. فالابن يرى خلاصه في الفرار، على عكس الخالة (بيتي توتل) التي تستمسك بخيط أمل وهمي في رجوع زوجها بعد سنوات من الهجر. وبين الخالة والابن تقع الأم، بطموح صغير في حدود المتاح يليق بوضعها، لأنها منوطة برعاية الأسرة قبل كل شيء، بحيث لا يوجد وقت لإيهام الذات بأشياء لن تحدث. والحقيقة أن الصبغة النسائية التي تصيغ الفيلم تمنحه ديناميكية وحيوية، كامرأة في مواجهة عالم من الرجال، كما تقول واحدة من الشخصيات الثانوية في الفيلم «لا تثق بامرأة دون رجل».
يتبدى عنفوان الفيلم في قدرة أرزة على كسر كل الحواجز وتحدي كل العواقب لتتبع دراجتها النارية، ذلك العناد حوّل جزءًا كبيرًا من السردية إلى شيء أشبه بأفلام الطريق (Road movie)، حيث تنتقل الإشكالية بشكل كامل إلى الشارع، تتحرك أرزة بصحبة كنان من مكان إلى مكان للبحث عن الدراجة المفقودة، وتصطحب المشاهد معها في رحلة على الطريق، بين الأحياء والأزقة، لنستكشف لبنان على خلفية الحكاية.
الجدير بالذكر أن المخرجة لم تقدم شخصية الأم كشخصية مثالية، لم تدفعها إلى مساحة مقدسة، بل أسست سرديتها بشكل كامل على خطيئة الأم، التي سرقت سوار أختها لتوفر الدفعة الأولى للدراجة النارية. تلك الدراجة التي تراها في مرتبة ابنها، وهذا ما نلاحظه خلال الفيلم. تمنحنا ميرا شعيب مساحة الحكم على الشخصية، بعيدًا عن الوعظ والتلقين، بيد أننا لا يمكننا فصل الشخصية عن السياق العام للحكاية، وإلى أي درجة ضحت الأم حتى تحافظ على العائلة.
ترصد المخرجة إشكالية عالم الأم الناتج عن الأحداث السياسية والاجتماعية التي تواجهها البلاد، حيث تتشابك الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لتشكل حياة الفرد في لبنان. كل الأحداث الكوميدية والمأساوية في الفيلم هي حصيلة نوبة من جنون العالم. كل ما تفعله المخرجة أنها تلتقط الحكايات التي تدور على هامش عالمها دون أن ينتبه لها أحد، وتضخمها وتمنحها الفرصة على الشاشة. فيلم «أرزة» هو منتج إبداعي يدعو الجمهور إلى الضحك على عبثية الحياة مع الاعتراف بالثقل العاطفي العميق الذي يخلفه الوجود في ذلك العالم وفي تلك الظروف.
اقرأ أيضا: «انصراف».. قراءة في مشروع سينمائي يتشكل